مبادئ.. في زمن متقلّب! | صحيفة الوطن
طالما كان لدي صراع شخصي دائم ومستمر مع أولئك الذين يدّعون إيمانهم بالقيم، ويدّعون تمثلّهم بالمبادئ التي تترجم تلك القيم، لكن أفعالهم تُبرز العكس تماماً.
هذه النوعية من الشخصيات أراها دائماً وبالاً على أي مكان يحلّون فيه، لأنهم يرتدون أقنعة تضلّل الناس، ويقومون بأفعال تناقض ما يدّعونه من أقوال تجمّلاً وتنكّراً. هم أشد خطراً من الجاهل، لأنهم يتسترون برداء الفضيلة ويمارسون عكسها، يزرعون الشك بدل الثقة، والضبابية بدل الوضوح.
اليوم لم يعد الحديث عن القيم والمبادئ ترفاً فكرياً أو تنظيراً أخلاقياً، بل أصبح ضرورة وجودية. إذ ما يُبقي الإنسان متماسكاً في وجه العواصف الحياتية ليس ذكاءه ولا مهاراته وحدها، بل منظومته الأخلاقية التي تمنحه بوصلة داخلية وسط الضجيج. وحين يفقد الإنسان مرجعيته الأخلاقية، يصبح عرضة للتقلّب، ويفقد القدرة على التمييز بين الثابت والمتغيّر، بين ما يجوز وما لا يجوز.
الخطوة الأولى لفهم هذه المنظومة تبدأ بالتمييز بين «القيم» و«المبادئ».
القيم تعكس ما يفضّله الإنسان ويوليه أولوية في سلوكه؛ فهي مرآة لتكوينه الشخصي والثقافي. الصدق مثلاً قد يحتل صدارة القيم لدى شخص، بينما قد يُفضّل آخر المرونة حتى لو تعارضت مع الحقيقة. هذه القيم تتشكّل وتتغيّر بتأثير التجربة والتنشئة والبيئة.
أما المبادئ، فهي قواعد أخلاقية ثابتة لا تخضع للمساومة، ولا تختلف كثيراً من مجتمع إلى آخر. لا يمكن تبرير الظلم، ولا يُمكن تزيين الخيانة تحت أي مسمّى. المبادئ تشكّل ما يمكن تسميته بـ«الخطوط الحمراء» التي تمنح الحياة معناها وتحفظ للإنسان كرامته، بصرف النظر عن الظروف والمغريات.
الفراغ الأخلاقي، الناتج عن غياب القيم أو التفريط بالمبادئ، لا يخلق إنساناً ضائعاً فقط، بل يُهدّد المنظومة المجتمعية برمّتها. من يعيش بلا قيم، يعيش بلا مرجعية؛ يتخذ قراراته وفق المصلحة لا الصواب، ويصبح عُرضة للتقلّبات والمساومات. والأسوأ أن هذا الانفلات الأخلاقي يُنتج عدوى تنتشر في محيطه، فتنهار الثقة، وتُفرغ العلاقات من معناها، ويصبح الكل في حالة ترقّب وريبة.
لعل أخطر ما في هذا الوضع هو أثره العميق على النفس البشرية. فالنجاحات الظاهرية لا تعوّض غياب المعنى. من يتساهل في مبادئه يعيش صراعاً داخلياً لا تُسكته الجوائز ولا تُخدره المكاسب. أما على المستوى الجمعي، فإن غياب المبادئ يفتح الباب أمام فوضى لا تُبقي شيئاً على حاله؛ حين تتحوّل العدالة إلى صفقة، والوطن إلى سلعة، يصبح الإنسان غريباً حتى عن ذاته.
القيم ليست فطرية دائماً، بل يمكن اكتسابها وتعزيزها بالتربية والتجربة. إذ كم من شخص لم يُدرك معنى الأمانة إلا بعد أن تعرّض للخيانة، وكم من إنسان لم يُقدّر المسؤولية إلا حين عاش نتائج الفوضى. المهم أن نمتلك الشجاعة لمراجعة الذات، والقدرة على الإنصات إلى الضمير وسط ضوضاء المصالح.
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى إعادة الاعتبار للقيم والمبادئ، لا باعتبارها شعارات مثالية، بل كقواعد للنجاة. وتذكّر بأن تمسكك بمبادئك في زمن متقلّب ومتلوّن، هو بحدّ ذاته بطولة لضميرك، بل إعلان عن هوية لا تقبل الذوبان، وإنسانية لا ترضى بأن تتحوّل إلى أداة للأهواء الشخصية أو لأمزجة ورغبات الآخرين.