لحظات جميلة تنسج خيوطها | صحيفة الوطن
[
]
لما أذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة إلى المدينة، أتى بيت أبي بكر الصديق في ساعة لم يكن من عادته أن يزوره فيها، فلما دخل عليه قال: «إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة». فقال أبو بكر: «الصحبة يا رسول الله»، فقال: «الصحبة». قالت عائشة رضي الله عنها: «فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ». لقد نسج أبو بكر الصديق رضي الله عنه بداية لحظات جميلة اختار أن يعيشها مع خير خلق الله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد «صدق الله فصدقه»، فكانت أجمل حكاية صاغها بنفسه وبصدقه مع الله تعالى، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، ليكون صاحبه في طريق الهجرة. إنها اللحظات التي كُتبت له، ولم يتردد في اغتنامها. إنها «الصحبة» الصادقة مع شخصية فريدة صنعت مجد الأمة بأخلاقها، وصاغت بمواقفها أسلوب حياة للبشرية جمعاء. صلى الله على حبيبنا محمد، ورضي الله عن أبي بكر الذي هجر منزله، لينسج خيوط حياة جديدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبني معه «دولة الأخلاق» في المدينة المنورة.
عندما يعتاد الإنسان أمراً ويألفه في حياته، يصعب عليه الانقطاع عنه أو الانفكاك عن مشاعره المرتبطة به. لكنه في لحظة ما يشعر أن توفيق الله الكريم ورزقه وهدايته تقوده إلى لحظات جميلة أخرى، تنسج خيوطها وفصولها في حياته بأثر مختلف، ويكتشف حينها، ومع كل لحظة منها، مدى حاجته إلى هذا الفصل تحديداً، وإلى تلك المواقف التي كُتبت له في مرحلة عمرية معيّنة. إنه التوفيق الحقيقي من الله تعالى، والاصطفاء والتسخير، ليكون عنصراً فاعلاً في هذه اللحظات الجديدة، التي آمن بها، وبأسلوبها، وعلِم أنها «رزق» ساقه الله تعالى له ليستمتع بها. وبعد خوض التجربة، يكتشف أنه قد نسج لحظاته بمشاعره، واستمتع بها، وخرج منها بفوائد جمّة، وبأصداء مريحة عمّت حياته، وأنارت دربه، وزادت في ميزان حسناته أثراً بعد أثر.
جميلة تلك اللحظات التي تنسج خيوطها الرائعة مع أسرتك، فتختار فيها مواقف ترجو من ورائها تحقيق الغايات السامية، وتكتب بعدها فصول الخير لترويها للأجيال، وتؤثر في كل فرد من أفراد الأسرة. فإذا كتب الله تعالى لك عمراً في فصل جديد من حياتك، فإنك تتعايش مع آثارها الجميلة التي نسجت خيوطها في زمن مضى. تبقى الأسرة هي الملاذ الآمن للمرء بعد عناء الأيام، وفي ظل التراكمات الحياتية التي يمر بها، ومع الجروح التي قد يتعمّد بعض الناس أن يغرسوها فيه. جميل أن يُحسن الإنسان نسج هذه الخيوط منذ تأسيس الأسرة، ليصنع مواقفَ وذكرياتٍ تبقى، فـ«الجزاء من جنس العمل».
مازلت أمتع بصري وذاكرتي ونفسي بأجواء «أجمل رحلة» لحج بيت الله الحرام، وخدمة وفود الرحمن، وأعدّ لحظاتها من أجمل ما يمكن أن ينسجه المرء في حياته؛ لما لها من أثر باقٍ في قلبه، بل وفي حياة الكثير من حجاج بيت الله الحرام. فمن رزق التوفيق في هذه الرحلة، رزق معها خيراً كثيراً وأثراً في حياته وحياة من حوله. وأما من جعلها مجرد لحظات عابرة، ومجرد مناسك أدّاها ثم كتب في حسابه على (إنستغرام): «الحمد لله أصبحت حاجّاً»، فلعمري، قد فاته الخير الكثير، ولم يُوفّق لنسج لحظاته كما ينبغي، ولم يختر الخير الذي يستحق أن يُستمتع به بطمأنينة وسكينة. لقد أضحت الفرصة سانحة لمن لم يُكتب له بعدُ حج بيت الله الحرام، بأن يعقد النية منذ الآن، ويعزم على أن ينسج في «أجمل رحلة» أجمل اللحظات، ليعود منها قريباً من المولى الكريم، متغيراً في جميع شؤون حياته، ملتزماً طريق الهداية والرشاد، ومكثراً من الدعوات والمعارف التي يُثري بها حياته.
اختر مشروعاتك ورسائل أيامك من جديد، وليس من العيب أن تُعيد صياغة أسلوب حياتك، خاصةً عند انقضاء عام من عمرك أو تغير رقم عمرك، أو عند انقضاء سنة هجرية.
بخبرتك وأسلوبك، تستطيع الحفاظ على «سلامك النفسي الداخلي»، الذي هو أساس عطائك المؤثر في الحياة، وتصنع أجمل اللحظات بأسلوب فريد ومتميز. لذا، مع كل موقف وتجربة، ينبغي أن تخرج أقوى مما كنت، وتعزم على ألّا تعود إلى الخيوط المتقطعة المؤذية، بل تنسج خيوطاً جديدة بألوان برّاقة، ترسم بها الخير في نفسك أولاً، لتكون شخصية معطاءة متجددة الأثر في المجتمع. ومن الجدير بك أن تكون حازماً بعد بعض المواقف المؤلمة، فتنسج من جديد أطياف فصول حياتك، لتعيش هانئاً، مستمتعاً برسائلك ومشروعاتك الجديدة.
ومضة أملقال تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، ولله جنود السماوات والأرض، وكان الله عليماً حكيماً).