أخبار العالم

الامتثال الأعمى والشعور الزائف بالأمان


هل صادف أن كنت تشاهد عرضاً سينمائياً أو مسرحياً، فوجدت الناس يضحكون على مشهد عادي فضحكت معهم، دون أن تعرف لماذا، أو من غير أن تفهم ذلك المشهد المثير للضحك؟ وهل تواجدت في محاضرة مملة، وعندما بدأ شخص ما بالتصفيق وجدت جميع الحاضرين يقلدونه دون وعي منهم؟ أتذكر أني في إحدى المرات عندما كنت في لندن مع زوجي وقفت معه أمام مطعم لبناني ننتظر تجهيز سندويشات شاورما لنا. وما هي إلا دقائق وجدنا طابوراً طويلاً من الناس يصطفون خلفنا بانتظار دورهم. إنه مشهد مضحك ولكنه حقيقي.

إنها نماذج تبين ميل الناس إلى الامتثال الاجتماعي Social conformity دون وعي منهم.

إن الامتثال الاجتماعي هو ضبط معتقدات الشخص وتوجهاته وسلوكياته لتتناسب مع مجموعة معينة.

ومن أسباب متابعة الأشخاص للمجموعة بشكل أعمى هو الشعور بالأمان الذي يوفره لهم من خلال التوافق مع الغالبية، فيحمون أنفسهم من الانتقاد والرفض والعزلة، حيث يدفع خوف الاختلاف أو النبذ الكثيرين إلى قمع أنفسهم الحقيقية واعتماد معتقدات وسلوكيات الآخرين، حتى عندما يعلمون في أعماقهم أنها خاطئة.

ويؤيد ذلك التجربة الشهيرة التي أجراها عالم النفس الاجتماعي «آش» لقياس الامتثال الاجتماعي، حين عرض على أحد الطلبة بطاقات تحتوي على خطوط مختلفة الطول، وكان عليه تحديد أي خط يطابق طوله خطاً مرجعياً.

ما لم يكن يعلمه هذا الطالب هو أن باقي الطلبة في الغرفة كانوا متفقين مسبقاً مع الباحث، وكانوا يتعمدون إعطاء إجابة خاطئة، مثل اختيار الخط الأقصر على أنه الأطول. المشارك الحقيقي، رغم تأكده من أن الإجابة خطأ، كان في كثير من الأحيان يمتثل لرأي الجماعة ويكرر إجابتهم، فقط كي لا يختلف عنهم.

كشفت التجربة أن الخوف من العزلة الاجتماعية أو الظهور بمظهر «الغريب» يدفع الإنسان أحياناً إلى التخلي عن حكمه العقلي ومجاراة الآخرين، حتى في الأمور الواضحة.

وأتذكر قصة خيالية ألهمتني، ولكنها تحاكي الواقع إلى حد بعيد، وهي أن زعيم قبيلة اكتشف أن أفراد قبيلته أصيبوا جميعاً بالجنون عند شربهم من ماء النهر في قريتهم، وبقي هو العاقل الوحيد بينهم فشعر بالغربة والقلق، فما كان منه إلا أن ذهب وشرب من نفس ماء النهر ليصبح مثلهم، ويشعر بالأمان بعد الامتثال لجماعته.

هذا المثال يوضّح كيف يمكن للضغوط الاجتماعية أن تُشوّه قراراتنا وسلوكياتنا، مما يؤكد أهمية الوعي والاستقلالية في التفكير، وتربية الذات على اتخاذ القرار السليم مهما كلف الأمر.

وهناك نماذج على كيف يمكن أن يؤدي الامتثال الأعمى للقيم السائدة في مجتمعات معينة إلى استمرار الأوضاع الخاطئة وتكريسها، مثل العنف الأسري، أو التمييز العنصري، أو التطرف الديني. في هذه الحالات، يقوم الأفراد بتبرير أو دعم أفعال تتعارض مع قيم العدالة والإنسانية لأنها مقبولة من جماعة معينة التي تقوم باستغلال قابليتهم للتأثر لتوجيه سلوكياتهم في اتجاهات غير مرغوب فيها أو لا أخلاقية فيكونون عرضة للتلاعب والتحكم عندما يلتزمون بشكل أعمى بما تطلبه أو تفعله جماعتهم.

إن الامتثال الاجتماعي الأعمى ما هو الا شعور زائف بالأمان ينجم عنه تكلفة باهظة حقا فهو يكبل الإبداع والتفكير النقدي والفردية، مما يؤدي إلى مجتمع من المتتبعين السلبيين بدلاً من المفكرين المبدعين أدوات التغيير في المجتمع، الذين بأيديهم فقط يتم تقدمه وتطوره وازدهاره.

* أستاذة جامعية في علم النفس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock