أخبار العالم

التدريب الإلهي على القيادة | صحيفة الوطن

[


]

حين يُريد الله أن يرفع إنساناً إلى مقام العظمة، لا يهبه القيادة هبةً عاجلة، بل يُهيّئه في صمتٍ مهيب، ويصقله في محراب المحنة، ويُدرّبه على الصبر واليقين، حتى إذا اكتملت عدّته واشتدّ ساعده، جاء التمكين في وقته الموعود، لا يتقدّم لحظةً ولا يتأخر.

هذا هو الإعداد الإلهي الذي نلمسه في قصص الأنبياء في القرآن الكريم، حيث لا مجد بلا صبر، ولا قيادة بلا تربية، هكذا كان يوسف الذي ألقي في غياهب الجب، وتم بيعه في الأسواق، ثم زُجّ في السجن ظلماً، لم تكن تلك المصائب عبثاً، بل كانت سطوراً في كتاب التمكين، ودروساً في مدرسة القيادة، فهناك في ظلمة السجون، تعلّم يوسف فن التأويل، وصقل رباطة الجأش، حتى إذا بلغ أشده، جاء الوعد الإلهي «وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ» فانقلب الأسير وزيراً، وصار الغريب عزيزاً، وتحولت المحنة منحة، ليكون قائداً لا تهزه الفواجع ولا تغريه المناصب.

أما موسى عليه السلام الذي فرّ من مصر مُطارداً، فقد ظل في «مَدْيَن» راعياً للغنم سنواتٍ طويلة، خاض دورة التواضع، وتدرّب على مراس القيادة، فرعى الغنم، وعلّم النفس السكينة، والقلب الطمأنينة، وما كان ذلك إلا تهيئة ربانية، حتى إذا بلغ أشده واستكمل التدريب، ناداه النداء العظيم الذي غير مسار البشرية «اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى».

وهذا سليمان عليه السلام، ما ورث المُلك بلا علم ولا فهم، بل اجتمعت له الفطنة والتدبير، فانقادت له الطير، وسُخّرت له الرياح، وأوتي الحكمة التي ترتبط بالعدل، وما ذلك العطاء إلا حصيلة تربية إلهية، وغرسٍ طويلٍ في تربة الطاعة واليقين.

وأعظم مثال، نبي الهدى محمد (ص) الذي نشأ يتيماً، فربّاه الله على الصدق والصبر، وعلّمه الغار أسرار السكينة، حتى إذا آن أوان الظهور، أشرقت الأرض بنور الرسالة، وانقلب المستضعف قائداً لدولة العدل والرحمة، فكان النصر تتويجاً لسنواتٍ من التربية الخفية التي لا يعلمها إلا العليم الحكيم.

ربما قد لا يُلقى بك في بئرٍ مظلم كيوسف، لكنك قد تسقط في حفرة الفقد أو الظلم أو التهميش، وقد لا تهرب من فرعون، ولكنك تفر من ضغوطٍ تحاصرك، من أحلامٍ لم تكتمل أو بيئةٍ لا تُقدّرك، وفي كل ذلك، أنت في مدرسة الله، تتعلّم في الخفاء، وتُربّى على عين القدر، حتى إذ نضجت روحك، جاء وقتك، وفتح الله لك باباً لم يكن في الحسبان، فالتمكين الإلهي لا يُنال بالأماني ولا بالراحة، بل هو حصاد تعبٍ طويل، وصبر نبيل، ورضا عميق، تلك سنن الله في خلقه، لم تتغير منذ آدم حتى خاتم المرسلين، فطوبى لمن اقتدى بهم، وصبر حتى اشتدّ عوده، وتمكّن في أرضه بالحق والعدل والإحسان.

تلك القصص العظيمة، وإن كانت آيات معجزة، إلا أنها دروس لنا أيضاً، تُعلّمنا أن النجاح يحتاج إلى مراحل إعداد طويلة، وأن التمكين لا يهبه الله لمن يطلبه بلا عمل ولا صبر، من أراد رفعةً تبقى مع الأيام، فليصبر على تجارب الحياة، وليثق أن لكل مجتهدٍ موعداً مع الفرج والوعد الـحق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock