تنفيسة| رحلة مع جابر المظلومين وناصر المستضعفين (1 – 2)
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
هو أول شيخ فقيه من المذهب المالكي يتولى رئاسة مشيخة الأزهر، ويُعادل في العصر الحديث لقب “الشيخ الأكبر” الذي يُطلق على من يتولى هذا المنصب. وقيل عنه: “فهو آخر الأئمة المتصرفين تصرفًا تامًا في مصر المحروسة وآخر أئمة المالكية”. كان ناصر المظلومين وجابر المستضعفين، إنه الشيخ العلامة محمد الخراشي.
كان الشيخ محمد عبد الله الخراشي أول شيخ فقيه من المذهب المالكي يتولى رئاسة مشيخة الأزهر بشكل رسمي، إذ لم يكن منصب مشيخة الأزهر منصبًا رسميًا قبل العصر العثماني وتولي السلطان سليمان القانوني. أما لقب “شيخ الأزهر”، فهناك اختلاف بين المؤرخين حول أول من حمله، لكن يتفق الجميع على أن أول من تقلد منصب مشيخة الأزهر رسميًا هو الإمام محمد عبد الله الخراشي.
ويُقال إن لقب “شيخ الأزهر” كان موجودًا قبل تولي الشيخ محمد عبد الله الخراشي، لكنه كان يُستخدم للدلالة على كبار مشايخ الأزهر دون أن يكون منصبًا إداريًا رسميًا، بل كان لقبًا شرفيًا يُمنح لمن له مكانة علمية وروحية في الأزهر، بينما في العصر العثماني أصبح المنصب رسميًا إداريًا مرتبطًا بإدارة شؤون الأزهر الدينية والتعليمية. أول من تولى منصب شيخ الأزهر بصفة إدارية ورسمية هو الإمام محمد عبد الله الخراشي، وسيكون لنا وقفة تفصيلية في هذا الشأن. فمن هو الشيخ الخراشي؟ وما هي مسيرته قبل دخوله الجامع الأزهر الشريف وبعده؟ وكيف كان جابرًا للمظلومين وناصرًا للمستضعفين؟
هو محمد بن جمال الدين عبد الله بن علي الخراشي، أبو عبد الله، المالكي، والخراشي نسبة إلى البلدة التي وُلد بها، وهي “أبو خراش” بمركز شبراخيت في محافظة البحيرة، في سنة (1010هـ – 1610م). نشأ الشيخ الخراشي في بيت علم وتقوى ودين، وفي سن العاشرة تقريبًا رحل من بلدته بعد أن تعلّم القراءة والكتابة وحفظ القرآن كاملاً، بالإضافة إلى قدر من العلوم التي أهلته للقبول والالتحاق بالأزهر الشريف. وبعد التحاقه بالأزهر، أقبل على دراسة العلوم المقررة فيه بشغف كبير وتفرّغ لها تمامًا حتى استوعبها كلها. اختار المذهب المالكي حبًا للإمام مالك، فقيه المدينة المنورة، ولِكثرة قراءاته وتخصّصه في هذا المذهب، تمكن من التأليف والفتوى وهو في مقتبل الشباب. وذاع صيته في مشارق الأرض ومغاربها من ديار الإسلام، فأصبح مرجعًا مهمًا لهذا المذهب.
قيل عنه إنه: الفقيه العلامة، البركة، القدوة، الفهّامة، شيخ المالكية وإمام السالكين. كان فقيهًا فاضلًا، ورعًا، تقيًا، متقربًا إلى الله بالعلم وخدمة الدين. كما أفادت المصادر التي تناولت ترجمة الخراشي بذكر أوصافه وخلقه، فذكرت أنه كان متواضعًا، عفيفًا، واسع الخلق، كثير الأدب والحياء، كريم النفس، حلو الكلام، جميل المعاشرة، كثير الشفاعات عند الأمراء وغيرهم، مهيب المنظر، دائم الطهارة، كثير الصمت، الصيام، والقيام.
كان زاهدًا ورعًا، متقشفًا في مأكله وملبسه ومفرشه، ومتعبدًا شديد الالتزام بالعبادة. فلم يكن يصلي صلاة الصبح، صيفًا وشتاءً، إلا في الجامع الأزهر، مع تهجد عظيم في الليل. وعلى الرغم من أن نهاره كله كان مكرسًا للطاعة، سواء في طلب العلم أو قراءة القرآن، فإن ذلك لم يمنعه من أن يقضي بعض مصالحه في السوق بنفسه، كما كان يعتني بمصالح بيته في منزله أيضًا.
يقول من عاشره: “ما ضبطنا عليه قط ساعة كان فيها غافلًا عن مصالح دنياه أو آخرته”. وذكر كثرة شفاعته عند الأمراء وقبولها يشير إلى حسن علاقته بولاة الأمور في ذلك الوقت، وإلى تقديرهم الكبير لأهل العلم بحيث لا يردون شفاعتهم. وقد يدل هذا أيضًا على ما أشار إليه أحد الباحثين من أن التعيين في منصب المشيخة كان مرتبطًا بشكل كبير بالعلاقة مع أولي الأمر.
يقول من عاشره: “ما ضبطنا عليه قط ساعة كان فيها غافلًا عن مصالح دينه أو دنياه”. وذكر كثرة شفاعته عند الأمراء وقبولها يشير إلى حسن علاقته بولاة الأمور في ذلك الوقت، وإلى تقديرهم الكبير لأهل العلم بحيث لا يردون شفاعتهم. وقد يدل هذا أيضًا على ما أشار إليه أحد الباحثين من أن التعيين في منصب المشيخة كان مرتبطًا بشكل كبير بالعلاقة مع أولي الأمر.
عمت شهرة الخراشي العلمية وانتشر صيته وذاع في بلدان كثيرة، منها بلاد الغرب وأفريقيا والشام والحجاز واليمن، وبلاد الترك موطن الحكم العثماني. لذا، لا غرابة في أن تأتيه الهدايا من أقصى الغرب وأقصى أفريقيا، لكنه، زاهدًا، لا يحتفظ بها لنفسه، بل يجعلها في يد أقاربه ومعارفه ليتصرفوا فيها.
ونأتي هنا لتقديم تفسير المنصب الذي تولاه الشيخ الخراشي، ولا مناص من التعرض لقضية كان لمترجمي الرجل حديث فيها لم يخلُّ من تشتت، فقد ذهب جمهورهم إلى أن الخراشي هو أول من تولى منصب مشيخة الأزهر، فتسلسله عندهم الأول في هذا الشأن. وكان هذا المنصب يُسمى قبله مشيخة المشايخ، حتى إذا آلت مقاليد الحكم في مصر إلى الأتراك العثمانيين، أوجدوا هذا المنصب سعيًا منهم لضبط الأمور ضبطًا إداريًا وتنظيميًا.
ذهب فريق من الباحثين إلى أن الشيخ الخراشي لم يكن أول من تولى منصب مشيخة الأزهر، بل كان هذا المنصب معروفًا ومشغولًا قبله بعدد من الشيوخ المعروفين، لذا لم يثبت لهذا الفريق أسبقية الأولية في ترتيب شيوخ الأزهر. بينما يرى فريق آخر أنه أول مالكي تولى هذا المنصب، ويبدو من التأمل في مذاهب من تولى المشيخة قبله ممن ذكرتهم المصادر أن هذا القول أكثر طمأنينة، إذ إن الخراشي كان بالفعل أول مالكي يتولى مشيخة الأزهر، خاصة وأن المنصب كان في السابق محصورًا على الشافعية والحنفية
دَرَسَ الشيخ محمد بن عبد الله الخراشي ودرّس العلوم الدينية من فقه وغيره، وعلوم العربية في الأزهر، ومكث في ذلك عشرات السنين. وكان له شيوخ أخذ عنهم تلك العلوم، وكان صاحب سند متصل إلى الإمام البخاري (ت: 276هـ) رحمه الله. من شيوخه: والده جمال الدين عبدالله بن علي، علي بن محمد بن عبدالرحمن أبو الإرشاد، نور الدين الأجهوري (ت: 1066هـ)، إبراهيم بن إبراهيم بن حسن اللقاني (ت: 1047هـ)، يوسف بن محمد بن حسام الدين الفيشي المالكي (ت: 1061هـ)، عبدالمعطي البصير، حسين بن محمد بن علي النماوي المالكي (ت: 1060هـ)، وياسين بن زين الدين بن أبي بكر الحمصي العليمي (ت: 1061هـ).
إذا انتقلنا إلى سيرته في التدريس وعلاقته بطلابه، نجد أنها اتسمت بخصلتين بارزتين: الأولى كرمه المفرط مع طلبة العلم، إذ كان يعيرهم من كتبه ومن خزانه الوقفي في الأزهر الكتب الغربية والعزيزة بكل يسر وأريحية، من غير كثير تفتيش، مما أضاع عليه عددًا من هذه الكتب. أما الخصلة الثانية فكانت في طريقته في التدريس، إذ كان لا يمل في درسه من طالب يسأله، أياً كان مستواه العلمي، فضلًا عن طيب ملاطفته لطلابه.
أما عن تلاميذه، فقد كان لهم دور بارز في نشر العلم، ومن أبرزهم: محمد بن عبد الباقي بن يسوف بن أحمد بن علوان الزرقاني المصري الأزهر المالكي (ت: 1122هـ)، علي اللقاني، شمس الدين اللقاني، وأخوه داود اللقاني، محمد بن غانم بن سالم بن مهنا النفراوي، أحمد بن غانم بن سالم بن مهنا، شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي، إبراهيم بن مرعي بن عطية الشبراخيتي، أحمد بن أحمد بن عبد الرحمن الغرقاوي الفيومي، إبراهيم بن موسى الفيومي – شيخ الجامع الأزهر (ت: 1137هـ)، أحمد الشرفي، الشيخ عبد الباقي القليني (من شيوخ الأزهر)، الشيخ عيد، والشيخ علي المجدولي. كما حضر درسه من علماء عصره من المذاهب الأربعة، خاصة خلال قراءته بعد ختم مختصر العسقلاني في شرح البخاري.
وكيف كان إنتاجه الأدبي؟ وما العوامل التي ساعدته في اكتساب مكانة علمية متميزة؟ ستكون إجابتنا عن هذه التساؤلات موضوع مقالنا القادم، بالإضافة إلى تقديم مجموعة من القصص الشيقة والممتعة في مسيرة الخراشي، التي تقربنا منه أكثر، لتكون صورة شاملة وواضحة عن هذا الشيخ الجليل العلامة.
mohamedsayed@art.asu.edu.eg