من الشارقة.. نُعيد قراءة تراثنا بعيون الآخر
[
]
عدتُ من الشارقة محملاً بالكثير من الأفكار، لا أستطيع اختزالها في انطباع سريع أو خبر عابر، فالمؤتمر الذي نظمّه معهد الشارقة للتراث في الأسبوع الماضي تحت عنوان «التراث الشعبي بعيون الآخر» كان مساحة مفتوحة للنظر في المرآة، تلك التي عكف الغرب طويلاً على صقلها ورسم ملامحنا عليها، أحيانًا بصدق الباحث وأدوات التوثيق، وأحياناً بظلال الاستشراق وأساليبه المعروفة في قولبة الشرق داخل قوالب جامدة، تارة ساحرة ومثيرة للفضول، وتارة أخرى متخلفة وغريبة، لكن على أي حال، تلك الصورة لا تُلزمنا إلا بقدر ما نتقن نحن قراءة ملامحنا على صفحاتها.
في هذا المؤتمر، الذي جمعتنا فيه الشارقة، كان واضحًا حجم الفجوة بين نظرتنا لأنفسنا وكيف يرانا الآخر، وهي فجوة ليست جديدة، لكنها اليوم أكثر حساسية، لأن العالم اليوم لم يعد بحاجة إلى مستشرقين يقطعون الصحاري ويتنكرون بأزياء، وينتحلون شخصيات ليكتبوا تقاريرهم، فالعصر الذي نعيشه اليوم جعل من أي شخص بكاميرا هاتفه أو تغريدة عابرة، أن يصنع صورة قد تُضاف، شاءت أم أبت، إلى سجل النظرة الخارجية لنا، ولهذا يبدو لي أن هذا النوع من اللقاءات الأكاديمية، رغم هدوء قاعاته وبعده عن صخب الإعلام، هو في الحقيقة أكثر أهمية من أي مؤتمر ذي شعارات رنانة يملأ الشاشات ولا يترك أثراً.
تشرفت في هذا المؤتمر بتقديم ورقة بحثية تناولت جانباً محدداً من تلك الصورة، من خلال أربعة كتب غربية، ساهمت جمعية تاريخ وآثار البحرين في ترجمتها إلى العربية، بجهد الدكتور عيسى أمين، وتحريري المتواضع لها، وهي كتب ليست جديدة على الباحثين، لكنها لم تأخذ حقها في الانتشار فيما مضى، ولذلك لم تُقرأ عربياً من قبل في إطار نقدي يضعها في سياقها السياسي والثقافي بعيدًا عن الانبهار أو الاتهام، بلغة تحليلية توازن بين دقّة التوثيق التي لا يمكن إنكارها في بعضها، وانحيازات النظرة الاستشراقية التي تتسلل إلى صفحاتها أحيانًا.
وكان من اللافت في معظم أوراق الباحثين، التأكيد على أن أحداً لا يستطيع إلغاء الدور التاريخي لكتابات الرحالة والدبلوماسيين والأطباء الغربيين الذين مرّوا بهذه المنطقة ودوّنوا مشاهداتهم، وبعض ما كتبوه كان دقيقاً إلى حد الإعجاب، وبعضه الآخر كان انتقائياً أو مشحوناً بخلفياتهم الثقافية ونظرتهم المسبقة، وهنا يكمن التحدي، أن نقرأ هذه المصادر بعقل ناقد، لا بمنطق القبول المطلق ولا الرفض العدمي، مع القدرة على الفرز والتمييز، وهذا هو ما حاولت أن أعبّر عنه في ورقتي، وفيما أحرص عليه دائماً في عملي البحثي والتحريري.
لستُ ممن يُهوّنون من خطورة الاستشراق، ولا ممن يرفعون شعار المؤامرة في كل جملة غربية، ولكنني أرى أن الوعي الحقيقي بتاريخنا وهويتنا يبدأ من فهم كيف نظر إلينا الآخر، لكي لا نعتمد على ردود الفعل، ونعمل على تحسين رسم صورتنا بأنفسنا، بتصحيح السرديات ونقلها للغرب كما نقلوها هم لشعوبهم، وهذه مسؤولية كبيرة تقع على الأكاديميين والمؤرخين بشكل خاص، وعلى كل من يكتب بشكل عام، يُعلّم، يُوثّق، أو يُنتج محتوىً يُخاطب العالم بلغته ومنطقه.
مؤتمر معهد الشارقة للتراث ذكّرني بهذه البوصلة التي لا يجوز أن تغيب عن ذهن أي مهتم بالتراث والتاريخ، فالتراث ليس قصيدة جميلة نردّدها ولا أزياء ملونة نُحيي بها المناسبات، بل هو جزء من معركة الوعي الكبرى، التي تُدار على صفحات الكتب، وعلى شاشات الإعلام، وحتى في أروقة المؤتمرات الهادئة، ولهذا حين جلست هناك بين زملاء من الخليج والوطن العربي، يناقشون بأدوات البحث ما كتبه الآخرون عنا، أدركت أن هذه هي الصورة الأهم، صورة العرب حين يجلسون ليقرأوا أنفسهم في مرآة الآخر، لا بخوف، ولا بغرور، إنما بوعي يعرف من أين يبدأ، وإلى أين يريد أن يصل.
ولعل الشارقة في هذا المؤتمر، وبما جمعه من ذاكرة المكان وجرأة السؤال، تُذكّرنا بأن معارك الوعي تبدأ بهدوء، لكنها تُحسم حين نملك شجاعة النظر إلى أنفسنا «بعيون الآخر.. وبعيوننا أولاً».