الوجوه المستعارة: من المعابد والموكِب الفرعوني إلى غرف القادة، والمخاب
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
من هُنا تبدأ قصة الشبه بوصفه أداة دولة.
اليابان: عندما يتحوّل التمويه إلى عقيدة
في القرن السادس عشر، رفعت اليابان فن التمويه إلى مستوى عقيدة. استخدم القائد العسكري أودا نوبوناغا شقيقه كـ “كاجيموشا” – وهي كلمة تعني الظل العسكري – لخداع الجواسيس حول تحركاته. وقد تحوّلت هذه القصة إلى فيلم للمخرج الياباني أكيرا كوروساوا عام 1980، لا يزال يُدرّس حتى اليوم في كليات الحرب اليابانية كأحد أذكى أساليب التمويه في التاريخ.
العالم لا يكتفي بواحدٍ منا… بل يكرّرنا، أحيانًا عن طريق الصدفة، وأحيانًا لأسباب لا نعرفها بعد.
بين المطرقة والظل: ستالين وهتلر… عندما يصنع الخوف وجهًا آخر
في عام 1944، ومع تدهور صحة الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، تم تعيين الراقص الاستعراضي السابق فيلكس دادايف ليكون بديله الرسمي. لم يكن الأمر مجرد شبه في الملامح؛ بل خضع دادايف لتدريبٍ مكثّف على حركات اليدين، نبرة الصوت، سرعة المشي، وحتى طريقة إدارة النظر. استخدم مكياجًا لإخفاء فروقات السن، وعاش في وحدة معزولة لا يعرفها أحد. سنوات بعد وفاة ستالين، كتب مذكراته تحت عنوان Stalin Without His Moustache، كاشفًا عن حياةٍ بأكملها عاشها في ظل رجلٍ آخر.
في الجانب المقابل، مع اقتراب الرايخ الثالث من الانهيار، بدأت الاستخبارات السوفيتية تتحدث عن دوبلير يُدعى “غاوغه”، قيل إنه استُخدم كبديل لأدولف هتلر في الأيام الأخيرة داخل المخبأ ببرلين. بعض الروايات تشير إلى أن غاوغه ظهر أثناء اللحظات الأخيرة، بينما كان هتلر يحاول التنقل أو التخفي. ورغم عدم وجود وثائق ألمانية رسمية تؤكد القصة، إلا أن الشائعة انتشرت بين الجنود لدرجة أنها تحوّلت إلى مزحة مريرة:
“إذا رأيت الفوهرر… لا تسأله، فقط حيّه وابتعد. ربما لا يكون هو.”
وفي هذه الأثناء، دخل مصطلح “دوبلير” إلى الإعلام العربي لأول مرة من بوابة مجلة «آخر ساعة» المصرية، التي نشرت بتاريخ 17 يونيو 1950 مقالًا بعنوان «بديل الملك فاروق في حفل الجامعة». كانت هذه أول مرة يُستخدم فيها المصطلح في الصحافة الجماهيرية العربية، ما يعكس وصول الفكرة من دوائر السلطة إلى الشارع.
كاسترو: هل كان الحاضر حقًا؟
في كوبا، ظهرت تقارير استخباراتية أمريكية غير مؤكدة تُشير إلى أن فيدل كاسترو ربما كان يستخدم شقيقه راوول كاسترو، أو حتى سائقه الشخصي، ليظهر في بعض الزيارات عالية المخاطر، خصوصًا في السبعينيات والثمانينيات حين كان هدفًا لأكثر من 600 محاولة اغتيال حسب ما ترويه المخابرات الكوبية. الحكومة الكوبية لم تؤكد ولم تنفِ، لكنّ الفكرة ظلّت حية في الأوساط الأمنية، وتحوّلت إلى جزء من الصورة العامة حول الزعيم الذي يختفي ويظهر في توقيتات محسوبة.
صدام حسين: حين يتحوّل الشبه إلى نظام دفاعي
ننتقل الآن إلى العراق. يُعدّ صدام حسين من أكثر القادة العرب الذين استخدموا شبكة دوبليرات بشكل منهجي. وفق شهادات منشقّة وتقارير استخباراتية غربية، كان يمتلك ثلاث دوبليرات رئيسيين خضعوا جميعًا لجراحات دقيقة شملت الفك، الأسنان، والندوب؛ لتقليد ملامحه تمامًا في الصور والفيديوهات العامة، وحتى أثناء الأزمات الأمنية. ومن بين الأسماء المتداولة في بعض الروايات غير الرسمية: كامل خليفة، وعدنان توفيق، إلى جانب لطيف يحيى، لكن لم يُوثّق اسما الأولين إعلاميًا بشكل علني، بينما ظلّت قصتهما محاطة بالغموض.
تلك الروايات لم تكن فقط إشاعات أمنية، بل مؤشرات على منظومة تمويه معقّدة هدفت إلى منع محاولات الاغتيال، أو على الأقل جعلها عشوائية ومربكة، حتى وإن كان الثمن… حياة وجهٍ آخر.
لطيف يحيى، فكان الأكثر شهرة إعلاميًا، لكنه لم يكن بديلًا لصدام نفسه، بل لابنه عدي صدام حسين. يروي لطيف في مذكراته I Was Saddam’s Son (1994) أنه استُدعي من وحدته العسكرية، وخضع لجراحة تجميل قسرية شملت تعديل الفك، زراعة أسنان ذهبية، وإعادة تشكيل الأنف. لم يكن مجرد تمثيل، بل حياة مزدوجة عاشها وسط نخبة النظام، حضر حفلات، قاد سيارات فارهة، وتعرّض لمحاولات اغتيال وهو يؤدي دورًا لا يملكه. فرّ من العراق عام 1991، وحُوّلت قصته إلى فيلم بعنوان The Devil’s Double (2011)، وظهر لاحقًا في وثائقيات على BBC وVICE.
القذافي: المواكب الثلاثة ومن تلقّى الرصاصة
وفي ليبيا، ظهرت روايات متكرّرة عن استعانة العقيد معمر القذافي بعدة دوبليرات. أشهرها ما تداولته وسائل إعلام دولية عام 1997، حين أُصيب أحدهم برصاصة طائشة خلال عرض عسكري في مدينة بنغازي. لم تؤكّد الحكومة الليبية الحادثة رسميًا، لكنها ظلّت تتردّد في شهادات بعض المنشقين عن حرسه الخاص، الذين أشاروا إلى أن القذافي كان يعتمد على توزيع حضوره بين ثلاث سيارات متطابقة في كل موكب رسمي، بحيث لا يعرف أحد أيّها تحتوي على القائد الحقيقي.
في النهاية…
ما يجمع هذه القصص جميعًا هو أن البديل لم يكن رفاهية، بل إجراء أمني صارم. لم يكن أيٌّ من هؤلاء يعيش لنفسه. بل كان يعيش وجهًا لا يملكه، ويتنفس خوفًا ليس خوفه. ومن خلف هذا كله، كان هناك نظام كامل ينسج الوجوه، ويوزّع الابتسامات، ويخفي الأصل.
في الحلقات القادمة.. سنواصل الإبحار لكشف قصص الوجوه المستعارة.