آخر الاخبار

الوجوه المستعارة: من عروش طيبة إلى خوارزميات وادي السيليكون (1)


جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

“ربما كان أعظم اختراع أمني قبل السترة الواقية هو… إنسان آخر.”

هكذا وصف المؤرخ الحربي البريطاني جون كيغان في محاضرته بجامعة كمبردج فكرة أن يتحرك “شخص آخر” بوجهك وجسدك. قد تبدو هذه الفكرة سينمائية، لكنها أقدم من السينما ذاتها.

يخلق من الشبه أربعين: من موروث شعبي إلى العصر الرقمي

قبل أن نبدأ، فلنُخفِّت الإشعارات، ونُغلق النوافذ المتعددة، لأن هذه الرحلة تستحق أن تُقرأ بكامل انتباهك.

ما سنخوضه معًا ليس سلسلة مقالات فقط… بل عبور بين ظلال وأقنعة.

هذه الرحلة لن تكون تقليدية. سننتقل معًا من نقوش المعابد إلى مواقع التصوير، ومن غرف العمليات إلى أرشيف المخابرات.

تعالَ معي، عزيزي القارئ، من خلف الكواليس إلى الصفوف الأمامية. من الظل إلى الضوء.

لنكتشف سويًا عالمًا أغرب من الخيال، لكنه موثّق بالدليل والاسم والصورة… عالم من عاشوا حياة غيرهم، ووجوه لم تكن يومًا لأصحابها.

المثل الشعبي «يخلق من الشبه أربعين» لم يكن مجرد تعليق عابر في المقاهي، بل بوابة لفهم ثقافي حول التشابه، الهوية، والانتحال.

يعود المثل إلى البادية العربية، ووثّقه الإمام الأصفهاني في «معجم الأمثال» في القرن الثاني عشر الميلادي، ثم الميداني في «أشباه الكتاب»، حيث أشار إلى انتشاره في الكوفة والبصرة.

لاحقًا انتقل إلى بلاد الشام، فمصر والمغرب.

والأجمل أن الفكرة نفسها موجودة في ثقافات أخرى:

في الفارسية يُعرف بـ”الهمزاد”، توأمك الروحي أو الطيفي.

في الإنجليزية يقولون: “لكل شخص توأم في مكان ما من العالم”.

في الفرنسية: “لكل إنسان سبعة أشباه”.

وفي الإسبانية: “نسخة منك تسير في مدينة أخرى الآن دون أن تدري”.

من أساطير الملوك إلى دهاليز الاستخبارات

رغم أن الحضارة المصرية تُعد أول من قدم دليلًا ماديًا على استخدام شبيه للملك، فإن فكرة “البديل” تعود إلى عصور أقدم لكنها أقل توثيقًا. ففي حضارات ما بين النهرين، مثل السومريين والأكاديين، نقرأ في ملحمة جلجامش عن شبيه خُلق لمرافقة البطل، لكنه كان شبيهًا روحيًا أو طقسيًا. أما في بابل، فكان يُستدعى “ملك رمزي” في الأعياد الدينية، يُنصَّب ظاهريًا ليؤدي طقوسًا بدل الملك الحقيقي ثم يُعزل. هذه الحالات لم تكن لأغراض أمنية، لكنها تُظهر أن فكرة التمثيل الجسدي لشخص آخر كانت متداولة حتى قبل أن توثق سياسيًا أو عسكريًا.

أما الفراعنة، فقد قدّموا أول تطبيق استراتيجي ذكي لهذه الفكرة. في نقوش حورمحب بطيبة (حوالي 1500 ق.م)، يظهر رجل يسير بجانب الفرعون في موكب نصر. يرى باحثون أن هذا “محارب ظل” أو بديل رمزي للفرعون، لحمايته من أي محاولة اغتيال محتملة. وفقًا لتفسير اللوحة رقم 112، فإن هذه الشخصية كانت تؤدي دورًا مرئياً في المناسبات الرسمية، مما يجعلها من أقدم الأمثلة على استخدام التمويه البشري لأغراض أمنية.

لكن الأهم من التمويه… أن كل ما يتعلق بالفرعون كان محسوبًا: الوقوف، الملابس، حتى الزوايا في الجداريات. لا شيء اعتباطيًا. وهو ما يجعل هذا “البديل” دليلًا على عبقرية الدمج بين السلطة والمسرح.

ثم جاءت لحظة فاصلة في التاريخ العسكري:

في عام 326 ق.م، كتب المؤرخ الإغريقي آريان في كتابه «أناباسيس أليكساندري» عن استخدام الإسكندر الأكبر لأسير فارسي يشبه داريوس الثالث بهدف إرباك الجنود الفرس، مما شكل أول محاولة موثقة عسكريًا لتوظيف “البديل” في ميدان المعركة.

وفي روما، يُقال إن يوليوس قيصر أرسل غلامًا شبيهًا له إلى مجلس الشيوخ لنقل رسالة سرية. رغم عدم توثيق القصة بالكامل، إلا أنها بقيت مصدر جدل بين المؤرخين.

من المعابد والموكِب الفرعوني إلى غرف القادة، والمخابئ الحديدية وحتى خوازميات وادي السلكون.. سنواصل الإبحار فيها في سلسلة مقالات قادمة لكشف قصص الوجوه المستعارة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock