تحليل الأعمال ليس للأرقام فقط!
[
]
في الزمن الذي تتسارع فيه أدوات الذكاء الاصطناعي، وتتوسع نماذج التحليل التنبئي، وتُستخدم البيانات بكثافة في دعم اتخاذ القرار المؤسسي، يظل هناك سؤال جوهري ينبغي أن يُطرح: من هو جوهر هذا التحليل؟ هل هو الرقم؟ أم الإنسان الذي يقف خلفه؟
تحليل الأعمال، كما يُفهم تقنياً، يرتكز على تحليل البيانات وتقييم العمليات باستخدام النماذج والمعادلات والتقارير. ولكنه في جوهره الأعمق ليس معادلة صمّاء، بل منظومة تفكير تستهدف فهم السلوك الإنساني داخل بيئة العمل، وتحليل ظروف الأداء، وتقديم قراءات عميقة توازن بين الكفاءة الإنسانية والمنهجية الرقمية. وحين نغفل عن البُعد الإنساني؛ نخسر ما هو أثمن من الدقة، ألا وهو الفهم الحقيقي. فليس كل تراجع في الأداء خللاً وظيفيًا، ولا كل ارتفاع في الأرقام نجاحاً بالضرورة. خلف كل مؤشر قصة، وخلف كل نسبة ظروف، ووراء كل قرار موظف يعمل ويجتهد ويأمل ويواجه، وقد ينجح أو يتعثر، لكنه في النهاية إنسان.
إحدى الدراسات البحثية التي قدمتها، أثناء مسيرتي الأكاديمية لنيل درجة الدكتوراه في تحليل الأعمال، ترتكز على تطوير نموذج تنبؤي ذكي يساعد في تعزيز عملية تقييم أداء الموظفين، وذلك باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وخوارزميات التعلم الآلي. لم تتمحور نتائج الدراسة التجريبية على دقة النماذج التي استخدمتها فقط؛ بل في عمق العوامل ومؤشرات الأداء التي كانت متجذرة في عناصر إنسانية أساسية أبرزها بيئة العمل، ومهارات التواصل، والشعور بالانتماء، الوضوح التنظيمي، والدعم القيادي، والتوازن بين الحياة والعمل. هذه العوامل، وإن صعبت ترجمتها إلى معادلات حسابية، إلا أن أثرها عميق في كل نموذج تنبؤي دقيق.
وهنا تتجلى أهمية أن نُعيد تعريف دور محلل الأعمال؛ ليس كمن يجمع البيانات، ويحللها ويقارن الأرقام فحسب، أو مجرد خبير في تقديم الحلول الذكية وتوظيف التقنيات الحديثة؛ بل كمستمع ذكي، راصد للأنماط البشرية، وفاهم لحقيقة الواقع، ومدرك لتفاصيله الخفية. فالنموذج الناجح لا ينجح لأنه دقيق تقنياً فقط، بل لأنه عادل إنسانياً، وقابل للتنفيذ واقعيًا، ومؤثر استراتيجياً. والأهم من ذلك؛ أن نؤمن أن البيانات ليست حيادية دائماً، فهي تلتقط ما نقرر أن نقيسه، وتتجاهل ما نغفل عن رصده. لذلك، فإن البُعد الإنساني يجب أن يكون في قلب كل تحليل: في طريقة جمع البيانات، وفي تفسيرها، وفي التوصيات الناتجة عنها.
وإننا في مملكة البحرين، ولله الحمد، نعيش في عهدٍ تُعزّز فيه الكفاءة، ويُكرَّم فيه العلم، ويُحترم فيه الإنسان. فقد أرست قيادتنا الرشيدة بقيادة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه، دعائم العدالة والتطوير والتمكين. وجاءت رؤية صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه الله، لتعزّز هذا النهج من خلال استراتيجية وطنية ترتكز على الكفاءة، والابتكار، والتحول الذكي، وفي كل مسارات العمل التنموي مع إيمان سموه أن المواطن هو محورها الأساسي.
في ظل هذه الرؤية، يصبح من مسؤوليتنا كباحثين وممارسين وإداريين؛ أن نُسهم في تطوير الأداء المؤسسي بعيون مفتوحة على الإنسان، لا الأرقام فقط. فكلما اتسعت أدوات التحليل وتقدّمت، ازدادت الحاجة إلى أن نتحول في وعينا الإداري لنفهم أن التمكين يبدأ من فهم الإنسان، وأن التحليل لا يكتمل إلا عندما تُقرأ الأرقام على ضوء القيم، وتُفهم البيانات بلغة الضمير، وتُبنى القرارات على أساس من التقدير قبل التقييم.