جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
بدأ العقاد الكتابة منذ نعومة أظافره، حيث بدأ بكتابة الإنشاء في السنوات الأولى من تعلمه، فكانت مواضيعه تشير إلى مولد كاتبٍ قديرٍ بأسلوب جذاب ومعانٍ سامية. وتنبأ له كثير من الأساتذة بمستقبل كاتب عملاق. مرت الأيام والسنون، وقوي عود العقاد فصار من المبرزين، دافع وناضل وحمل لواء بلده حتى أصبح مثالًا يحتذى به.
ولد العقاد في مدينة أسوان في الثامن والعشرين من يونيو سنة 1889م. تلقى مبادئ القراءة والكتابة، وعندما بلغ السابعة من عمره التحق بمدرسة أسوان الابتدائية، حيث بينت ملامح ذكائه وفطنته، كما تبدت ملامح اعتزازه بكيانه وشخصياته، ووضحت فيه معالم ميله إلى الجدل والنقد والتصدي لهما في كل مناسبة تقتضيهما.
صحبه والده وهو ما زال غلامًا إلى مجالس الأدباء والمتفقهين، فاستفاد من ذلك معرفةً وتبصيرًا، كما عُني بدعوة جمال الدين الأفغاني، وتأثر بها. ثم سمع عن الشيخ محمد عبده كأكبر شخصية إسلامية في ذلك الحين، وقد قرر أن يزور المدرسة التي تحوي مادة الإنشاء كأحسن نموذج للكتابة في شيء صغير، فأعجب به محمد عبده إعجابًا شديدًا وتنبأ له بأنه سيكون كاتبًا له شأن عظيم.
اعتز العقاد بهذا التقريظ الساحر من الإمام محمد عبده، فرسم مستقبله على هديه، كما واتته الفرصة لتنمية ملكاته الشعرية والأدبية، وقرأ كثيرًا لكثير من الكتاب والأدباء، كما قرأ لعبد الله النديم، خطيب الثورة العربية والصحفي البارع، ونهج نهجه وهو ما زال صبيًا، فأخرج صحيفة اسمها “التلميذ” معارضًا بذلك صحيفة النديم “الأستاذ”.
تهيأت الفرصة للعقاد لكي يتقن اللغة الإنجليزية، لأن المواد كانت تُدرس بالإنجليزية في المدارس آنذاك. كما أن ظروف مدينة أسوان كبلد سياحي جعلته يتصل بالسائحين والصحف الإنجليزية وكبار الموظفين الإنجليز الذين يزورون المدينة لإقامة المشروعات الهندسية مثل خزان أسوان وغيره. وبما أنه تيسر له إتقان الإنجليزية، فإن ذلك جعله يقرأ كثيرًا من الأدب الإنجليزي، وأُتيحت له الفرصة لكي يقف على أحدث ما أخرجته المكتبات الإنجليزية، فتوافرت له من جراء ذلك حصيلة أدبية باهرة.
تخرج في المدرسة سنة 1903م، ولما لم يجد عملاً تطوع بالتدريس في المدرسة الإسلامية الخيرية بأسوان. وفي سنة 1904م، ظهر الزعيم مصطفى كامل وفي صحبته مدام جوليت أدم وكاتبة إنجليزية. وفي تلك الزيارة، لم يستحوذ العقاد على إعجاب مصطفى كامل الذي تجهم وأعرض عنه بسبب تفسير العقاد لبيت من الشعر لم يرضَ عنه مصطفى كامل. وكان لهذا الإعراض صدى في نفس العقاد جعله يعرض هو الآخر فيما بعد عن مصطفى كامل وعن الحزب الوطني، ويقبل على محمد عبده وتلاميذ القائلين بفصل مصر عن السيادة العثمانية. وكان العقاد ممن يشايعون اتهام الحزب الوطني بالتعلق بذيل السيادة العثمانية.
وفي سنة 1905م عمل تلميذًا بالقسم المالي في مدينة قنا، ثم نُقل منها إلى الزقازيق في العام نفسه، وأخذ يتردد على القاهرة كل أسبوعين لينهل من محافلها الأدبية والمسرحية ويقتني الكتب القيمة التي غدت مواهبه الأدبية حتى استحالت حصيلتها الوافرة منها إلى رحيق أدبي رائع.
وفي سنة 1906م استقال من عمله والتحق بمدرسة الفنون والصنايع بالقاهرة، ثم تركها وعمل بمصلحة البرق، ثم ترك هذا العمل واشترك مع الكاتب والمؤرخ الإسلامي محمد فريد وجدي في تحرير جريدة الدستور سنة 1907م، وهي السنة التي توفي فيها والده.
وفي سنة 1908م التقى بسعد زغلول، وهو وزير المعارف، وأجرى معه حديثًا صحفيًا كان الأول من نوعه في تاريخ الصحافة المصرية. وكان في إجرائه بارعًا وموفقًا، واستحوذ على إعجاب سعد زغلول، تلميذ محمد عبده. وهنا تبدت ملامح الصحفي البارع فيه، كما تهيأت له الفرصة فنشر في صحيفة الدستور كثيرًا من ترجماته لقراءته في الكتب الإنجليزية الأشهر للكتاب الغربيين وأعظمهم شأنًا.
كان العقاد منذ نعومة أظافره يكره العابثين بحقوق المواطنين، فكان في نفسه كره متأصل للخديوي والخليفة العثماني ومن يلوذون بهما. وحكم على العقاد بتهمة العيب بالذات الملكية بسبب تعريضه في كتاباته للخديوي الذي يعوق نهضة إصلاح الأزهر التي كان يدعو لها الإمام محمد عبده.
وفي سنة 1909م أغلقت صحيفة الدستور بسبب الضيق المالي، ونضب معين رزقه فباع كتبه ليقتات من ثمنها، وحل به ضيق شديد حتى لم يتمكن من تسديد إيجار مسكنه، كما داهمته العلة فبارح القاهرة إلى بلدته أسوان، ولكن العلة اشتدت به حتى ظن نفسه قد أصبح فريسة لمرض الصدر، وكان في حقيقة الأمر فريسة للوهم والفقر والجوع، واستقر في أسوان يقضي شتاءً يقاسي شظف العيش ومرارة الحرمان.
وفي سنة 1911م اتجه إلى القاهرة محاولاً بإرادته وعزيمته أن يصرح أوهامه، فاشترك في تحرير صحيفة البيان وقدم فيها ترجمات قيمة استرعت إليه أنظار الكاتب المشهور محمد المويلحي، مدير قسم الإدارة بديوان الأوقاف، فاختاره مساعد كاتب بالمجلس الأعلى للأوقاف. فتيسرت له أمور الحياة وبدأ يكتب وينشر، ونشر خلاصة اليومية كما نشر كتيباً عن المرأة أسماه الإنسان الثاني.
وفي سنة 1912م كان في القاهرة حيث عمل بسكرتارية ديوان الأوقاف كما أسلفنا، ويواصل كتاباته في صحيفتي البيان وعكاظ حيث كتب فصولاً نقدية في مجلة عكاظ مع زميله المزني وشكري، واختص نفسه بكثير من الترجمات الغربية (لكارل ماكولي وأرنولد) وأمثالهم. وكان ما زال يعمل بالأوقاف، حيث وقف على اختلاسات الخديوي لأموال الأوقاف الخيرية، فهاله الأمر ولم يسكت، فكتب في الصحف دون توقيع يقترح رد الاختلاس، فضاقت بطانة الخديوي.
وحاول رجال القصر الإنجليزي الاتصال به لمناوأة الخديوي الذي كانت علاقاته بهم قد ساءت، ولكنه أعرض عن السكرتير الشرقي الإنجليزي ونفر منه ومن مصانعة له، غير أن رجال الخديوي كادوا له وأخرجوه من عمله بالأوقاف في سنة 1914م حيث عمل مشرفًا على الصفحة الأدبية بصحيفة المؤيد. ولقد كان العمل في المؤيد حلمه منذ بداية حياته الصحفية، ولكن سرعان ما نشب خلاف بينه وبين رئيس تحريره فاستقال.
ثم يعود إلى بلدته أسوان ليقضي شتاءً مثمراً خصباً، حيث عكف على الكتابة في الشعر وألف طائفة من الخواطر أسماها “الشذور”. فيقول: “كان الموسم خصباً حقاً بثمرات التأليف، لأنني أكملت كتاب “ساعات بين الكتب” الذي يعد ثمرة الاطلاع في مذاهب الفكر الحديث، وأولها مذهب داروين ومذهب نيتشه في السوبرمان، وفرغت من كتاب الإنسان الثاني، وأتممت رسالة مجمع الأحياء، ونظمت في ذلك الوقت أكثر من نصف قصائد الجزء الأول من الديوان”.
وفي ذلك الوقت، أعلنت الحماية على مصر بعد الحرب العظمى، كما أُعلنت الأحكام العرفية. وكان العقاد قد تصدى لمدير أسوان الذي أساء إلى أهل بلده، مما جعل المدير يحرض مفتش الداخلية الإنجليزي على العقاد، الشيء الذي جعل الرقابة تسلط عليه وتحدد مدة إقامته. وعندما ضاق به الحال من هذه المعاملة السيئة، هرب إلى القاهرة، حيث التقى بجعفر والي باشا وكيل وزارة الداخلية، المعروف عنه احترام الأدباء والصحفيين، وكان ذلك في عام 1915م، فأجراه هذا الرجل وألحقه بعمل في رقابة الصحف، ولكنه لم يمكث به سوى عام واحد.
وفي عام 1916م، عاد العقاد إلى القاهرة بعد استقالته من الرقابة على الصحف، والتحق بالتدريس مع زميله المازني حتى وضعت الحرب أوزارها في 11 نوفمبر 1918م، وظهرت الدعوة الوطنية على يد الوفد المصري. وحينها انخرط العقاد في صفوف تلك الدعوة إيمانًا منه بثمرات ذلك النضال. وهنا تتجلى وطنيته الحقيقية ونضاله القوي الذي بدأ بثورة 1919م. وكانت بداية نضال العقاد كاتبًا ومحررًا في جريدة الأهالي، ثم في جريدة الأهرام، حيث جعل قلمه أداة لإلهاب الثورة والنضال من أجل الوطن لتحقيق الشعور الوطني. واستمر نضاله بالقلم حتى ثورة 1919م التي استجاب لها بالهتاف والثورة ضد المستعمر وأذنابه، وأصبح شاعر الثورة وكاتبها، وحفظ له ذلك.
وفي سنة 1921م عاوده المرض فعدالة صنع، حيث أقام بها شتاء 1922م. وفي ذلك الوقت، نشر الجزء الثالث من كتابه “الديوان في النقد والأدب” وهاجم شوقي هجوماً عنيفاً، واشترك مع عبد القادر حمزة في تحرير صحيفة “الأفكار” المؤيدة للوفد المصري، واشترك في تحرير صحيفة “الأهرام” كما أشرنا من قبل بفصول أدبية، ونشر كتابه “الفصول”… وللحديث بقية في الأسبوع المقبل إن قدّر الله لنا البقاء واللقاء لنتعرف على أسباب معاركه الأدبية التي أدت لسجنه مرة داخل مصر، وهروبه مرة أخرى خارج مصر. وما حقيقة علاقته بالفنانة هند رستم؟ ولماذا قام بتوبيخ الرئيس السادات في صالونه في المرة الأولى التي حضر بها؟
mohamedsayed@art.asu.edu.eg