فن الإدارة.. «الغائب» عند البعض!

[


]

تلقيت أمس اتصالاً من أحد المسؤولين على قطاع مهم وحيوي. لم يكن لطلب توضيح، أو مناقشة شأن سياسي أو اجتماعي كما هي العادة. كان الموضوع مختلفاً، اتصل بي معلقاً على مقال كتبته عن أهمية بناء الثقة بين القائد وموظفيه، وأن القيادة الذكية لا تُصنع بالخوف، بل بالثقة، ولا تُمارس بالتعالي، بل بالقدوة والمعرفة.

الاتصال كان بالنسبة لي ذا معنى عميق. فحين تجد مسؤولاً يقرأ ويهتم ويثمّن الطروحات الإدارية التي ترتقي بمفهوم القيادة وتطوير الأداء، تشعر أن هناك من مازال يؤمن بأن الإدارة ليست مجرد منصب، بل رسالة.

الإدارة في جوهرها فن، وفن إدارة البشر على وجه الخصوص يتطلب إدراكاً عميقاً لطبيعة الناس واحتياجاتهم وتطلعاتهم. من يعتقد أن الإدارة هي إصدار أوامر من خلف المكاتب الفارهة، أو أنها وجاهة اجتماعية وبهرجة منصب، فهو لم يفهم الإدارة بعد.

فالمسؤول الحقيقي لا يصنع الحواجز، بل يبني الجسور، لا يرفع صوته، بل يفتح أذنه، لا يفرض سلطته، بل يزرع الثقة في نفوس فريقه.

الموظفون لا يحتاجون إلى من يلوّح لهم بالخوف والعقوبة، بل إلى من يمدّ يده لهم دعماً وتوجيهاً. فريق العمل لا يُبنى بالتعليمات الجافة، بل بالاحتواء والمعرفة والمثال الحي.

القائد الذي يعرف تفاصيل العمل، ويفهم طبيعة كل إدارة ومهام كل موظف، هو الذي يحظى باحترام الجميع، لأنه ببساطة مرجعهم وقدوتهم.

في المقابل، هناك من المسؤولين من لا يرى في منصبه إلا بريق البرستيج. يحيط نفسه بطواقم السكرتارية، ويتعامل مع العمل كأنه عبء على من تحته، وليس مسؤولية تقع على عاتقه أولاً.

يطلق المقترحات، ويتوقع من الموظفين تنفيذها بأي وسيلة، في الوقت الذي لا يستطيع هو نفسه فهم آلية تنفيذها!

القيادة الحقيقية تتطلب الانغماس في تفاصيل العمل، والإصغاء الجيد، والاطلاع المستمر، والحرص على التطوير. المسؤول الذكي لا يرى الكرسي امتيازاً، بل مسؤولية.

لا يرى الموظفين أدوات تنفيذ، بل شركاء في النجاح. يتعلم منهم كما يعلمهم، ويساعدهم كما ينتظر منهم الأداء.

أعرف مسؤولاً كبيراً يعمل في منصب رفيع، يتجاوز عمله اليومي أكثر من 12 ساعة، بلا ضجيج ولا بهرجة إعلامية.

يعمل من مكتبه، من بيته، حتى في أيام العطلات. لا يعرف الكلل، لأنه ببساطة يشعر بحجم الأمانة التي يحملها.

موظفوه يعرفون جهده، ورؤساؤه أحياناً يستغربون من طاقته. لقد قرر أن يكون في جوهر المسؤولية لا في ظاهرها، أن يكون قدوة لا صورة، وهذا ما نفتقده كثيراً اليوم.

Exit mobile version