أخبار العالم

لدي عائلة.. أرجوك لا تدهسني!


بهذه العبارة المخطوطة على دراجة التوصيل النارية، يتنقل سائقها مذعوراً بين شوارعنا، ليعيش يومه ويكسب رزقه. وبهذا الرجاء المحرج، يظن المسكين أنه سينجو من عجلات الاستهتار أو الإهمال، وهي -في حقيقة الأمر- تصرفات مشينة تبعث برسالة واحدة: تحدي النظام العام على حساب الذوق، والأخلاق، وسلامة النفس، والآخرين.

وموضوع السلامة المرورية يُعدّ من القضايا الاجتماعية الشائكة، نظراً لارتباطه بحياة الناس اليومية، ودوره في إثارة التفكير حول أهمية التربية المدنية في تكوين المسؤولية الفردية لضبط السلوكيات غير المسؤولة، باعتبارها عنصراً أساسياً لدعم النظام وفرض هيبته، خاصة عندما تتزايد حالات اللامبالاة وعدم الاكتراث بالعواقب مهما بلغت خطورتها.

ولمن يتصور أن حوادث الطرق مجرد حوادث عابرة لا تأثير لها إلا على الأطراف المتضررة، فهو مخطئ؛ إذ تمتد خسائرها -إلى جانب فقدان الأرواح ومرارة رحيل الأحبة- لتشمل تراجع الإنتاجية بسبب الإصابات طويلة الأمد، والأضرار التي تلحق بالبنية التحتية، وإرهاق أنظمة الرعاية الصحية والأمن العام. هذا فضلاً عن زعزعة الثقة بأمن الشوارع وانعكاساتها السلبية على قطاعات حيوية مثل السياحة، وكلها كُلف تفوق ما يمكن تخصيصه لتدابير الوقاية الاستباقية.

ونظراً لما يشهده العالم من خسائر بشرية ضخمة بسبب الحوادث المرورية، تُقدَر بما يزيد على المليون وفاة سنوياً، بالإضافة إلى خسائرها المادية، فقد أصبح التعامل معها -حسب الأدبيات الدولية- أكثر حذراً وتنبهاً، لدرجة أنها تُصنف كـ«وباء الطرق» أو بـ«الحرب الصامتة»!

ولمعالجة ذلك، خصصت الأمم المتحدة مبادرة بعنوان «عقد العمل من أجل السلامة على الطريق»، لتطوير القوانين والسياسات التي تنمي الوعي وحس المسؤولية لدى السائقين، وتخفض الوفيات والإصابات بنسبة 50% بحلول 2030. والمبادرة الأممية، بالمناسبة، تندرج ضمن أهداف التنمية المستدامة المرتبطة بالصحة العامة والرفاه، والمدن المستدامة، وتغير المناخ.

بعض الدول، مثل السويد والنرويج، تعاملت مع القضية المرورية بجدية بالغة، وسبقت تطلعات «عقد السلامة» بربع قرن، بتطبيق رؤية صفرية -ZERO VISION- لتقليل الوفيات والإصابات الناتجة عن الحوادث، وعبر اعتماد سياسة الوقاية بدلاً من العقاب. والنتيجة؟ معدلات «صفر وفيات» في بعض مدنها.

أما النموذج الياباني، وما أدراك ما النموذج الياباني، الذي لا يترك تفصيلاً إلا وسحق شياطينه، فتعتمد سياسته المرورية على أبحاث معهد متخصص لتحليل الحوادث وظواهرها المستجدة. وتتسع مظلة تعاونه لتشمل وزارات النقل، الطرق، السياحة، الشركات المصنعة للسيارات، الشرطة المرورية، الجامعات، ومراكز الأبحاث.

وفي مقابل هذه المتانة العلمية للبحث في جذور أي معضلة، نجد أن الانضباط الياباني، بصورة عامة، يقلل العبء على النظام في ملاحقة الخارجين على القوانين، ويؤسس لقواعد اجتماعية متحضرة تمنح القانون هيبته وترتقي، في المقابل، بالذوق العام. فمن العيب أن تزعج الآخرين بأصوات الأبواق، ومن المخزي أن تخالف أنظمة المرور، والويل لمن يقرر أن يقود سيارته وهو في وضع لا يؤهله لذلك.

ومن آخر الأخبار التي تدعم محاربة القيادة غير الآمنة، قرار بريطاني بحظر إعلان تلفزيوني لشركة «مارس» للشوكولاتة بسبب محتواه المتهور الذي يصور سباقاً على الطريق السريع ينتهي بتلاحم سيارتين، في تشبيه بحلوى «تويكس» الشهيرة!

فالقضية، إذن، وبحكم ارتباطها بحياتنا اليومية كما أشرنا في البداية، تتطلب حسماً وحزماً وسياسات شاملة تعالج المشكلة من جذورها.

ولن نبالغ إذا قلنا إن «جرائم» السير في عكس الاتجاه هي أولى القضايا التي يجب النظر فيها لمعرفة أسبابها والعمل على وأدها في مهدها، باعتبارها سلوكاً غير أخلاقي وفعلاً مُجرَّماً ينبغي أن تكون العقوبة عليه واضحة وصارمة.

ونقطة مهمة لابد من الانتباه لها، وهي مؤشر خوف السائقين المرصود مؤخراً، وتوجههم لخيار تركيب أجهزة «الداش – كام» بحجة توثيق المخالفات وإثبات الوقائع، خصوصاً لمن تسول له نفسه إنكارها، وهذا يتطلب بالطبع ترخيصاً وتنظيماً للفصل بين انتهاكات الخصوصية وتثبيت الحق العام، وما بينها من مساحة رمادية واسعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock