هل الحب أعمى حقاً؟ | صحيفة الوطن
[
]
حين نحب شخصاً ما، ونشعر بميل جارف نحوه نجد أنفسنا نتغاضى لا إرادياً عن عيوبه، بل قد نراها فضائل أو نبررها، فالحبيب إن كان عنيداً نراه «واثق الخطى يمشي ملكاً»، وإن كان بخيلاً نبرر ذلك بأنه ذكي؛ لأنه» يخلي القرش الأبيض لليوم الأسود». ولكن إذا ساءت العلاقة معه، أو تغيرت مشاعرنا نحوه، نصبح أكثر انتقاداً له، ويغدو بأعيننا « أسوأ خلق الله»، ونرى عيوبه بالمجهر. وهذا ليس بالضرورة؛ لأن العيوب لم تكن موجودة، بل لأننا لم نكن نراها أو نلحظها من قبل، وكنا نعمي أعيننا عنها. إن الحب يمنح الغفران، ولكنه يعمي البصر والبصيرة، ويجعلنا منحازين لمن نحب شئنا ذلك أم أبينا، ونشعر أننا مسلوبو الإرادة والعقل والمنطق تجاهه. ويعزى السبب- استناداً إلى علم نفس وظائف الدماغ- إلى الشعور بالحب يجعل مستوى إفراز هرمون الدوبامين عالياً، مما يسبب الشعور بالسعادة والراحة، وقد تؤثر زيادته على مناطق معينة في الدماغ، فتعطل القدرة على التفكير النقدي، والتقييم العقلاني.
في بداية الحياة الزوجية مثلاً، عندما يسود الحب العلاقة بين الزوجين، ويكون هو الحاكم بأمره، نرى الزوج أو الزوجة يبرر أحدهما للآخر، أو أمام الآخرين، كل تقصير أو سلوك سلبي، وينظر للأمور بإيجابية ومرونة. أما حين تسوء العلاقة، يصبح كل خطأ محل انتقاد، وكل تصرف بسيط يُفسّر على أسوأ وجه. وكثيراً ما نسأل أنفسنا عند انطفاء شعلة نار الحب: لماذا لم نرَ عيوب حبيبنا هكذا من قبل؟
كذلك في علاقات الصداقة، قد نغفر للأشخاص الذين نحبهم ما لا نغفره لغيرهم، وننسى أخطاء من نحب، فإن غاب عنا صديق نحبه مدة من الزمن، ولم يسأل عنا أثناء مرض ألم بنا نسامحه، ونختلق له الأعذار، فنقول لأنفسنا والآخرين: لابأس إنه مشغول، أو ربما لم يشأ إزعاجنا بكثرة السؤال. ولكن بالنسبة إلى من نبغضه نرى أخطاءه تحت المجهر، فإن غاب عنا مرة نقاطعه، ونخرجه من حياتنا إلى الأبد.
كما ينطبق ذلك على بيئة العمل أيضاً، فنرى أن الموظف الذي يحظى برضا مديره محط ثناء دائم، وإن ارتكب أخطاء يتغاضى عنها هذا المدير ، ولكنه يُحاسب آخر على نفس الأخطاء بقسوة إن لم يحظ منه بنفس القبول.
هذا التحيز العاطفي قد يكون غير واعٍ، لكنه حقيقي وله آثار واضحة في اتخاذ القرارات والسلوكيات التي نلمسها في علاقاتنا الشخصية والمهنية في حياتنا اليومية.
وكما قال المُتنبّي:«وعينُ الرِّضا عن كلّ عيبٍ كليلةٌ ولكنّ عينَ السُّخطِ تُبدي المساوِيا»
وهو بيت خالد يلخص ببراعة هذه الظاهرة النفسية والإنسانية الشائعة، حيث يلعب الرضا أو السخط دوراً كبيراً في تشكيل نظرتنا للآخرين، وأساليب معاملتنا لهم.لذا علينا أن نكون على وعي بأن مشاعرنا قد تكون مرآة مشوشة للحقيقة. صحيح أن الشعور بالحب جميل، لكنه ليس مبرراً لتجاهل الواقع، كما أن السخط ليس دليلاً على وجود الخطأ.ويا حبذا لو نبني علاقاتنا الشخصية والمهنية مع الآخرين بعين العقل قبل العاطفة، لنمنح كل إنسان حقه، دون أن نعمي أعيننا عن الحقيقة، سواء بالرضا أو بالسخط.بحيث لاندع الحب المبني على التحيز يحكم علاقاتنا مع الآخرين حين نعمي أنفسنا عن أخطائهم، ونرى سيئاتهم حسنات، لأن الحب أعمى حقا.والمطلوب هو ذلك الحب الناضج العاقل الذي لا يبنى على عاطفة هوجاء، بل الذي ينمو كالزهر بالرعاية والاهتمام، والذي يحكم على الأشخاص والمواقف بعين العدل والإنصاف.حينئذ تشرق شمس السعادة في حياتنا أجمعين لتبدد ظلام الجهل والظلم والتعصب.
* أستاذة جامعية في علم النفس التربوي