هل مازال الباب يُطرق؟! | صحيفة الوطن
[
]
روى لي زميل من إحدى الدول العربية، كيف كان يعود من المدرسة مباشرة إلى بيت جيرانهم، لأنه يعلم أنهم سيقومون بطبخ أكلته المفضلة، ويضيف أن الأمر لا يحتاج دعوة أو ترتيبات مسبقة، بل طرقات على الباب وسؤال مباشر «شو طابخين اليوم»، وانتهى.هذه القصة أعادتني سنوات إلى الوراء؛ فعندما كنت صغيرة كان بيتنا، مثل كثير من البيوت، بلا جرس، فكل من يزورنا يعرف أن الباب يُطرق ثلاث مرات فقط، وغالباً ما يفتح بعد الطرقات الأولى، لأن الجيران كانوا لا ينتظرون.
أتذكر أم حسن، جارتنا التي كانت تدخل بيتنا مباشرة كأنها واحدة من أهله، تصرخ من المطبخ: «وين أمك يا بنتي؟»، وأحياناً تجلب معها طبقاً مميزاً، أو تأتي فقط لأنها «اشتاقت» لتشرب قهوة أمي المتميزة، حسب قولها، أو لتتذوق أحد أطباقها المفضلة، كذلك تذكرت والدي، رحمه الله، عندما كان يعطي أخي علبة حلوى العيد ليوصلها لبيت «أبو راشد» دون موعد أو رسائل واتساب، فقط ابتسامة وطرق على الباب.
تلك كانت أيام الجيرة؛ أيام كان الجار يساهم معك، شئت أم أبيت في تربية أبنائك، حيث كان يعتبرهم مثل أبنائه تماماً، ويعاتبك ويعاتبهم، و«يستر عليك» كما لو أنه شريك في بيتك، لا مجرد ساكن بجوارك، بل ويعرف عنك أكثر من بعض أقاربك.
أما اليوم فلا أحد يطرق الباب؛ قد نعيش في شقق متلاصقة نسمع صوت التلفزيون وهو يخترق الجدار، لكن لا نعرف من يسكن خلف هذا الجدار، رغم أن لدينا واتساب، وإنستغرام، وتويتر، وسناب، ولكن «الطرق» صار افتراضياً والتواصل رقمياً والمودة.. معلقة في مجموعات صامتة!
كيف أصبح القرب مكانياً فقط؟كيف أصبحت التحية تمر عبر الشاشة بدلاً من أن تحملها الأرجل إلى الباب؟كيف فقدنا ذلك النوع العميق من الجيرة، حيث لا توجد «خصوصية» بمعناها الحديث، بل انصهار جميل في حياة بعضنا البعض؟ليس المقصود أن نعود بالكامل لتلك التفاصيل، فالحياة تغيّرت، وتغيّرت معها الإيقاعات والاهتمامات، لكن أن نفقد «الطرق على الباب» تماماً؟ أن نصبح غرباء نعيش متجاورين؟ فهذا هو الفراغ الحقيقي.قد لا نستطيع أن نُرجع الزمن، لكن يمكننا أن نُعيد بعض نبضه، اترك رسالة بسيطة لجارك، قل له «اشتقنا لطرق الباب»، وقد تجد من يرد بالحنين نفسه.
إضاءةسأختم مقالتي اليوم باقتراح يمكن أن تتبناه إحدى مؤسسات المجتمع المدني، وهو إطلاق مبادرة «أسبوع الجار البحريني»، نعمل فيها على كسر الحواجز فيما بيننا، نبادر إلى دعوة الجيران إلى فنجان قهوة دون مناسبة، أو نقدّم لهم «نقصة» من غدائنا، أو حتى نطرق الباب فقط لنطمئن عليهم.قد لا يعود الزمن؛ ولكن قد يعود بعض دفئه.. لو طرقنا الباب.