في زمنٍ لم نعد نفرّق فيه بين قصيدة كتبها إنسان، ولوحة رسمها روبوت، وتغريدة خرجت من قلب حقيقي أو خوارزمية تعلمت كيف تُثير الإعجاب..نقف أمام سؤال جوهري: من نحن، ومن يُشكّلنا؟
هل ما زلنا نحمل هويتنا في ضلوعنا؟ أم أنها باتت تُصاغ في معامل الذكاء الاصطناعي؟
لم تعد الهوية شيئاً نرثه من آبائنا وتاريخنا وثقافتنا فقط، بل باتت تُصاغ اليوم بخوارزميات دقيقة تعرف عنا أكثر مما نُعلن، وتُرشدنا إلى ما «نحب أن نكون». فأصبحت اختياراتنا في الملابس، والموسيقى، والطعام، وحتى الفيديوهات التي نشاهدها، مُوجَّهة بالذكاء الاصطناعي، الذي «يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا».ولم نعد أحراراً بالكامل في تشكيل ذواتنا، بل أصبحنا مرآة لصدى خفيّ يصنعه الذكاء الاصطناعي من خلف الشاشات.
لم تعد الثقافة محصورة في كتاب يُقرأ أو مسرحية تُعرض؛ اليوم، تُملى الثقافة على الجماهير من ترندات «TikTok»، ويُعاد كتابة تاريخ الشعوب والأمم بلمسة ذكاء صناعي يعيد تركيب الواقع حسب «الاهتمام الجماهيري».
لقد غيّر الذكاء الاصطناعي معايير الفن، وسرّع وتيرة الإبداع، حتى بات الإنسان يُطارد ذاته ليُلحق بإنتاج الآلة، أصبح المُبدع يُقارن بلوحة صُمّمت في ثوانٍ، أو نصٍّ كُتب بلا جهد ولا قلق.
لم يعد الرأي العام صوت الشعوب فحسب، بل صار صوتًا تصنعه الجيوش الرقمية، والمحتوى الموجّه، والترندات المصطنعة. وبضغطة زر، يمكن لمئات الآلاف من الحسابات المدارة بالذكاء الاصطناعي أن تغيّر اتجاه نقاش عالمي، أو تُحاصر رأياً قبل أن يُولد، أو تسوّق لمصالح قوى دولية في مكان ما من العالم.
باتت المنصات ساحة معركة للرأي، وأصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا من السلاح المستخدم فيها.
أسئلة كثيرة تُطرح، من يقود الرأي العام العالمي؟ وهل ما يعتقده الناس هو نابع منهم؟ أم مجرد صدى لتوجيه خوارزميات غير مرئية؟
إن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية؛ إنه مرآة مكبرة لإنسانيتنا، ولرغباتنا في الفهم والسيطرة، ولتشكيل صورة مثالية للذات، لكن الخطر يكمن حين تُصبح هذه المرآة مصدراً لتزوير الذات، وتفتيت الهوية، وتزييف الإجماع.
إننا بحاجة إلى ذكاء إنساني يُرشد الذكاء الاصطناعي.. لا العكس.، حيث يجب أن تظل الثقافة، والهوية، والرأي العام أصواتاً نابضة تعبّر عن الانتماء والذاتية الثقافية والولاء للوطن، لا مجرد محتوى يشكّله من يملك التقنية على المستوى الكوني.
* أستاذ الإعلام الرقمي المساعد