[
]
ليس كل رجلٍ شرقيٍ صوته عالٍ، ولا كل بيتٍ تُرفع فيه الكلمة تُسمَع فيه الرجولة.
فبين الصور النمطية التي تُكرّس «الرجولة الصارمة»، هناك رجال اختاروا الصمت سلاحاً، والتسامح طريقاً، لكنهم دفعوا الثمن وحدهم.
هذا المقال ليس عن الرجل الذي يُسيطر، بل عن الرجل الذي انسحب، لا لأنه ضعيف.. بل لأنه لم يعد يحتمل المعركة كل يوم.
يقال إن الرجل الشرقي لا يقبل أن تُرفع عليه الكلمة، ولا يسمح لأحد أن يُوجّهه، لكنهم لم يخبرونا عن أولئك الصامتين الذين يعيشون تحت سقف امرأة لا تكتفي بالكلمة، بل تُدير البيت كجنرال عسكري. تصدر الأوامر، ترفع الصوت، وتقرّر وحدها من، ومتى، وكيف، ولماذا، بينما هو يلوذ بالصمت، ليس لأنه لا يرى، بل لأنه لا يريد أن يرى بيته يتحوّل إلى ساحة معركة كل يوم.
هو ذلك الزوج الطيب الهادئ الذي يُقدَّم للناس على أنه محترم ومتسامح، لكنه في الحقيقة رجل منهك، يختبئ خلف ابتسامة باهتة، ويختار السكوت لأنه أرهقته المواجهات التي لا يخرج منها منتصراً. يعرف متى يكون الحق معه، لكنه لا يقاتل من أجله. يفضّل أن تسير السفينة ولو بقبطان غيره، ما دامت ستصل إلى برٍّ آمن، أو هكذا يظن. لا يعنيه من يتخذ القرار، بل يعنيه أن لا تغرق العائلة في بحر من الضجيج. هو لا يبحث عن السيطرة، بل عن السلام. لكنه بمرور الوقت، يتحوّل إلى ظل لرجل، يسير ويأكل ويعمل ويدفع التزاماته الأسرية، لكنه فقد ملامحه منذ أن اختار أن يكون الصمت عنواناً.
بعض النساء حين لا يجدن من يقف لهن، يتجاوزن حدود السيطرة إلى حدود الخيانة. وتلك، إن وقعت، فإن هذا الرجل -حتى حين يكتشفها- لا يثور ولا يفضح، بل يبتلع جرحه بصمت، كما ابتلع الذي قبله. لا يريد فضيحة، ولا رغبة له في معركة مكلفة لا تترك أحداً على قيد الاحترام. يخشى على أولاده، على اسمه، على عمره الذي لم يعد يحتمل نكبات عاطفية جديدة. فيسكت. لا لأنه راضٍ، بل لأنه تعب من أن يكون دومًا الطرف الذي يُصلح ما لا يُصلَح.
الأبناء أنفسهم لا يرون فيه ذلك العمود الذي تُبنى عليه الأسرة، بل يتحسسون نبرة أمهم، يقرؤون تقلباتها، ويتحركون وفق مزاجها، ويتجنبون غضبها. وحدها تُخيف، وحدها تُقرر، وحدها تُبكي وتُراضي. أما هو، فوجوده لا يُربك أحداً، ولا غيابه يثير التساؤلات. أصبح أشبه بقطعة أثاث صامتة، مألوفة، لكنها لا تُشاور ولا تُشكر.
وحين يتخذ قراره أخيراً، بعد سنين من التآكل الداخلي، بأن يخرج من هذا الزواج، تتبدل الأدوار فجأة. المجتمع الذي طالبه بالصبر، يُهاجمه لأنه قرر الرحيل. تُشهر في وجهه تهمة القسوة، ويُوصف بأنه خذلها، وخذل أولاده، وخذل الصورة النمطية للرجل الذي يصبر بصمت حتى آخر رمق. تُرفع ضده عبارات من نوع: «ما فكر بأطفاله؟»، «ضيع العشرة»، «خان الصبر الجميل».. وكأن سنواته الماضية بلا صوت لم تكن كافية لإثبات حسن نيته.
ومع ذلك، لا يرد. فقط يتنفس للمرة الأولى بعمق، ويشعر أنه نجا. لكن لا أحد يسأله كيف عاش كل تلك السنين. لا أحد يعترف أن الخروج من زواج يُطفئك بصمت.. هو في حد ذاته شجاعة.
هو لا يصمت لأنه ضعيف، بل لأنه شريف. لا ينسحب لأنه عاجز، بل لأنه لم يُرد أن يتحوّل بيته إلى حلبة تتقاذف فيها الكلمات والكرامات. لكنه حين يصبح الصبر عبئًا، والتجاهل خيانة للنفس، والسكوت خنجرًا في الكرامة… فلا بد أن يُسمع صوته، ولو لم ينطق.
«وكم من كريمٍ يبتغي الذلّ صابراً، مخافة أن يُقال عليه تمردا»
وبصراحة.. هذا الرجل لا يطلب الشفقة، بل الاحترام. لا ينتظر التبرير، بل الاعتراف بحقه في الرحيل. فالظلم لا يتغير شكله إن خرج من فم امرأة، ولا يتجمّل حين يُغلفه الحب بالشروط. فليس كل من غادر بيتًا كان جانيًا، وليس كل من بقي كان بطلاً.