أخبار العالم

صناعة التفاهة عبر وسائل التواصل الاجتماعي


في زمن التحول الرقمي والانفتاح الإعلامي غير المسبوق، تحوّلت بعض وسائل التواصل الاجتماعي من منصاتٍ للتعبير والتواصل البناء إلى ساحةٍ يعمّها الضجيج، ويعلو فيها المحتوى السطحي على حساب القيم والمعرفة، فلم تعد الشهرة مرتبطة بالإنجاز، بل باتت تُنال أحياناً بالابتذال، والسخرية، وكسر الحواجز الأخلاقية حتى أصبحت التفاهة تجارة رابحة.

هذا التحوّل في معايير التأثير، دفع الكثيرين إلى السعي نحو الشهرة، بأي وسيلة كانت، حتى وإن اقتضى ذلك تبني سلوكيات هابطة أو ممارسات مسيئة، ليصبح ترويج السخرية وتصدير الاستهزاء سلوكاً يُكافأ بالتفاعل والمتابعة، لا بالنقد والردع.

إن الانغماس في هذا المحتوى لا يقف عند حدود التسلية، بل يُضعف التركيز، ويشتت الوعي، ويصرف العقل عن القضايا الجادة نحو تفاهات لا تُضيف قيمة، والأسوأ أن النماذج المُصدَّرة للأطفال والمراهقين ترسم صورة مشوهة للنجاح، تُكرّم فيها التفاهة، ويُحتفى بمن يرقص ويسخر، بينما يُهمَّش العلماء، وتُغيّب القدوات التي تصنع التغيير بصمت بعيداً عن أضواء الشهرة.

وفي زمنٍ كهذا، تصبح التفاهة خطراً داهماً لا على الذوق العام فحسب، بل على منظومة التعليم والتميز والاجتهاد، فهي تُقدِّم طريقاً مختصراً، سريعاً، لكنه زائف، يسرق من الطالب قيمة التعب، ويُهمّش من المجتهد ثمرة الجهد، ويزرع في العقول الصغيرة وهماً يقول «لماذا تتعب، وهناك من نال كل شيء بلا شيء»؟

لسنا في مقام تحميل الأسرة كامل المسؤولية، غير أن دورها يظل محورياً لا يُغفل، فهي الحضن الأول، والحصن الأهم، فإذا صمتت الأم عن الابتذال، وغاب الأب عن التوجيه، فمن يُحصّن هذا الجيل في وجه سيل جارف من الانحدار الأخلاقي؟

لكن الأمر أيضاً لا يتوقف عند الأسرة، فالمؤسسات التعليمية، والإعلامية، والدينية، والثقافية، تتحمل بدورها مسؤولية جسيمة في بناء جدار صد أخلاقي وثقافي يحمي المجتمع من «غزو التفاهة».

ما نعانيه اليوم ليس مجرد محتوى هابط، بل أزمة قيم، وصراع على العقول والذوق العام، وهنا تبرز الحاجة إلى محتوى بديل هادف يبرز أن الحياء لا يتعارض مع الجاذبية، وأن التميز لا يحتاج إلى صراخ، بل فكر وأصالة، فضلاً عن الاحتفاء بالشخصيات الملهمة في الإعلام والمجتمع، وتسليط الضوء على إنجازاتها بأسلوب عصري، يشد الأجيال الجديدة ويحفزهم على الاقتداء.

وفي هذا السياق، لابد من الإشادة بما تبذله وزارة الداخلية والنيابة العامة من جهود لحماية المجتمع من الانحدار القيمي، وذلك من خلال رصد وتتبع المقاطع المخالفة، ومحاسبة من يسيئون استخدام المنصات عبر نشر ألفاظ خادشة أو سلوكيات منحطة، هذه الرسالة الصارمة بأن القيم لا تُنتهك باسم الترفيه تمثل خطوة بالغة الأهمية في استعادة هيبة الفضاء الرقمي.

إن ما يهدد المجتمعات في هذا العصر لا يُختصر في سلاح، بل في فكرة هابطة تنتشر كالنار في الهشيم، فتُغيّب العقل، وتُقزّم القيم، وتُهمّش المعنى، وإذا أردنا فعلاً أن نصنع جيلاً يقود لا يُقاد، فلتكن معركتنا اليوم معركة وعي وكلمة ومحتوى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock