جنيهات تحت الشمس.. معركة نساء سودانيات في مصر للبقاء
01:37 م
الجمعة 18 يوليه 2025
كتبت- سلمى سمير:
في شارع يمتد كزقاق متعرج ضيق يفترشه الباعة يمينًا ويسارًا تقارب الساعة على الـ10 مساء و”مُنجدة” لا تزال تجلس على قفص خشبي مقلوب بلا حائط خلفها تراقب عيناها بدموع متحجرة المارة في الشارع ذهابًا وإيابًا، هذا يذهب للجزار وآخر لشراء الخضراوات وذاك يحمل أمتعة مختلفة، أما هي فلا يوجد أمامها إلا بضعة أكياس توابل وعدد من أرغفة الخبز لتبيعهم.
امتلأ الشارع بمختلف الروائح من محلات الجزارة مرورًا بعبق توابل العطار وصولًا لدخان الفول والطعمية التي لا تزال تباع لمن لا يقدرون إلا على ثمنها، إلا أن رائحة مختلفة سيطرت على “مُنجدة” وهي رائحة موت خيم على المكان فجأة بعد مكالمة مفاجأة من أخيها يقول فيها: “منجدة الدعم السريع هاجموا سيارة أبينا وقتلوا من فيها وأحرقوا جثث الجميع”.
صمت خيم فجأة بعد تلك المكالمة رغم ضجيج الشارع من أصوات السيارات والبائعين، فلم تعد تعلم إلى أين الوجهة وماذا تفعل هل تبكي وتنهار وتترك بضاعتها وتذهب للمنزل وتخاطر بمبلغ من المال بالإمكان تحصيله لدفع إيجار المنزل حتى لا تظل بالشارع، أم تقتل كل تلك المشاعر وتجلس كالشبح حتى تبيع بضاعتها وتذهب للمنزل وتبكي وحدها لاحقًا.
حال “مُنجدة” ليس كسائر الباعة في شارع سوق فيصل بل هي أسوأ فجلوسها ببضاعتها جهاد تربط به على حزن فقدان والدها جراء الحرب المستمرة منذ عامين وسلاحها للبقاء على قيد الحياة مع اعتمادها فقط على نفسها لتلبية سبل العيش الأساسية فلا رفاهيات في حياتها.
تكافح “مُنجدة” على أمل أن يأتي أحدهم ويشتري منها كيس خبز أو بعض البهارات أو فتاة ترغب في رسم الحناء لتتحصل على جنيهات إضافية تسد منهم التزامات من إيجار وفواتير كهرباء وماء وغيرها أُلقت على عاتقها منذ تركت السودان قبل 4 أشهر وجاءت إلى مصر بفعل الحرب، لأن “صاحب المنزل لن يصبر عليها إذا تأخرت في دفع الفواتير وسيطردها هي وأمها العجوز”.
على بعد بضعة أمتار أخرى تجلس “مستورة” المرأة الخمسينية حزينة الوجه متشحة بالسواد على رأسها حدادًا على فراق الأحبة فاقدة لشغف البائع المطلوب للحصول على رزق يومه، تجلس كل منهن وغيرهن في شارع السوق لا تفصلهن إلا أمتار معدودة على اليمين و اليسار تكافحن في سبيل العيش لا أكثر.
في سوق منطقة فيصل بالجيزة لم تنته الحرب بالنسبة لمنجدة وغيرها فهن في صراع يومي لإثبات أنهن قادرات على البقاء في شارع السوق غير متأثرات بمضايقات بعض “البلطجية” ممن يريدون إخضاع كل ضعيف مستجد تحت سيطرتهم، فمنذ رحلتها التي بدأت قبل 4 أشهر في مصر لا تزال “مُنجدة” في صراع يومي لإثبات أنها ليست لقمة سائغة وفي الوقت ذاته تتجنب أي مشاكل لا داع لها.
تركت “مُنجدة” السودان خلفها وجاءت رفقة والدتها بعدما اجتاحت قوات الدعم السريع مدينة “سنجة” عاصمة ولاية سنار الواقعة على الضفة الغربية للنيل الأزرق، لتودع حياتها الغناء التي اعتادتها طيلة 34 عامًا كانت فيهم الابنة المدللة للتاجر المغربي الثري التي عاشت في كنفه حياتها كلها.
“أنا لست مشردة بل كان لدي 3 عمائر بهن العديد من الشقق” تحكي منجدة التي ذهبت الحرب المندلعة من ربيع سنة 2023 بمالها ومنزلها الواسع ذو الحديقة الخضراء وأحبائها فلم تترك لا خيارا إلا الهروب بملابسها هربًا من عناصر الدعم السريع الباحثين عنها وعن زوجها الضابط في القوات المسلحة السودانية لقتلهم.
رفض زوج “مُنجدة” ترك بلاده وقت الحرب واستمر بدوره في الخدمة العسكرية وهو ما جعله هدفًا للدعم السريع التي وضعته على قائمة المطلوبين رفقة إخوة “مُنجدة” الذين تعرضوا للتعذيب وكُسرت أطرافهم حتى يدلوا بأي معلومات عن أختهم وزوجها للقبض عليهم إلا أن الجواب ب “لا نعلم” زاد من جرعة الضربات اللاتي يتلقونها.
لأكثر من شهرين لم تسمع “مُنجدة” صوت إخوتها ولا تعلم شئ عنهم مع انقطاع الاتصالات بينهم فكان آخر ما أخبروها به عن بحث الدعم السريع عنها وعن زوجها وتعرضهم للتعذيب من أجل الإدلاء بأي معلومات عنهم، ومنذ ذلك الحين انقطعت الأخبار عنهم فكان آخر ما سمعت به صوتهم بعد تعرضهم للتعذيب لحمايتها، فيأتي هذا الهم مع الآخر الأكبر مع خسارة والدها أثناء رحلته إلى مصر للهرب من الحرب.
استند والد “مُنجدة عبدالغني” على زجاج نافذة الحافلة يفكر فيما تركه ورائه وعن الحياة الجديدة التي تنتظره ولا يعلم كيفية تدبر أموره فيها إلا أن عناصر الدعم السريع لم يمهلوا الرجل العجوز الوقت الكافي للتفكير في كل ذلك مع انقضاضهم على المركبة بينما كانت في ولاية الخرطوم ليسقط جسده ميتًا بعدد من الأعيرة النارية الخارجة من رشاشات المسلحين الذين قتلوا الرجل المسن وكل من كانوا معه في الطريق دون التمييز بينهم سواء كانوا عجائز أو أطفال.
رغم موته لن تستطيع عائلة “عبدالغني” الوقوف على شاهد قبره وقراءة فاتحة الكتاب له مع إحراق الدعم السريع جثامين كل من كانوا في الحافلة دون تمييز فلم يتبق منهم جميعا إلا رمادا تذره الرياح، وبذلك أحرق الدعم السريع حتى حلم الذهاب لقبر عبدالغني بعد عودة “مُنجدة” للسودان. تعبر كل تلك الأحداث أمام أعين “مُنجدة” يوميا بينما تجلس على الأرض تبيع بضائعها فلم تستطع إمساك دموعها أثناء حديثها لـ “مصراوي” عما مرت به منذ تركت السودان لمصر وتبدل الحال بحال الذي شهدته.
حرب الشوارع
كل تلك الحوادث تلزم قسوة الحياة الجديدة أن تجعلها منجدة ليست أكثر من شريط في الذاكرة رغم أنها ليست كذلك، فحياتها في شارع السوق فرضت أمرًا واقعًا أشد قسوة لا مفر من مواجهته ولا وقت فيه للحزن على الماضي، فبينما تجلس هي وتضع أمامها طبقات كبيران واحد للخبز السوداني “الكسرة” والآخر به مجموعة من التوابل وأكياس حناء لمن أرادت الرسم يلقي الجار من الطابق العلوي من المنزل الذي تجلس تحته قمامته عليها فيفسد الخبز الذي سهرت ليلًا في المنزل تصنعه بيديها وبالدقيق الذي اشترته بمالها.
موقف كالمذكور سيدفع بأي شخص للعراك مع ملقي القمامة إلا أن “مُنجدة” تأثر السلامة بغصة في قلبها على سؤال المخطئ عن سبب فعلته، فتعاود إلى عملها بعد أن تنفض القمامة عنها وعن بضائعها “اعتدت ذلك أصبح أمرًا طبيعيًا في يومي بعد أن كنت أفزع أولًا توقفت عن ذلك وأصبحت أضع الأمر بصدري بعدما علمت أنني سأتعرض لذلك كل يوم” بل أصبحت تحاول تفادي ذلك بتغطية بضائعها بالقماش لحفظها.
الجار المجهول من الطابق العلوي ليس الوحيد فيوجد آخر غيره يضايق “مُنجدة” والتي كانت وظيفتها السابقة نائبة رئيس مصلحة الجوازات في السودان وكانت تدرس سابقا بكلية الطب، فبينما تتحدث هي عن مصابها إذا بآخر من “الفتوات” يمر ويلقي عليها القمامة لكن الفارق أن ذاك الذي صبغ شعره بعدة ألوان وتدلت القلادات من عنقه لم يخف وجهه بل وقف على مسافة قريبة ينظر لها نظرة تحد كأنه يقول فيها “نعم أنا الذي ألقاها عليكي ماذا ستفعلين”.