حين يرى الطفل أكثر مما يجب
في زمن حرب الخليج، كنا أطفالاً لا نفهم ما يدور حولنا، لكننا كنّا نشعر أن شيئاً ثقيلاً يخيّم على البيت. كانت عوائلنا تتحرك بصمتٍ حذر، تغلق النوافذ وتلصق أطراف المكيفات بالشريط اللاصق، وتخفض صوت الأخبار، وكأنها تخشى أن يتسرّب الخوف مع الهواء. كنا نشاركهم تلك الطقوس دون أن نعرف السبب، نحمل الشريط اللاصق ببراءة، ونظن أن كل ما في الأمر مجرد لعبة جديدة في زاوية البيت. لم نكن نعرف لماذا تتغير ملامح الكبار فجأة، ولا لماذا يصبح الليل صامتاً أكثر من المعتاد.
كانت الحرب آنذاك تحدث في مكان بعيد، وتُروى بلسان الكبار فقط، بينما نحن نواصل اللعب في ظل جهل ناعم، حمانا من القلق، وأبقى الطفولة كما ينبغي أن تكون: خفيفة، دافئة، آمنة.
أما اليوم، فلا جهل يقي، ولا مسافة تحمي. أطفال هذا الجيل يرون كل شيء. بالصوت والصورة والتعليق والترند. يرون الأطفال تحت الأنقاض، يسمعون صرخاتهم، ويلاحقون تفاصيل الأخبار لحظة بلحظة على شاشاتهم الصغيرة، التي فتحت لهم نافذة واسعة على عالم يمر بالصراعات والانهيارات.
ولأنهم يرون كل شيء، فإن أسئلتهم باتت أكبر من أعمارهم: «لماذا يحدث ذلك؟ وهل سيصل إلينا؟» وهي أسئلة لا يجدون دائماً من يجيب عنها، ولا من يحتوي القلق الذي يُخفيه صمتهم الطويل خلف الشاشات.
نحن أمام جيل يعرف أكثر مما ينبغي. جيل يُحلّل قبل أن يُحصّن، ويشاهد الكوارث وكأنها مرآةٌ لمصيره، لا مجرد خبر عابر. وهنا تكمن خطورة المرحلة، لا في حجم المعرفة، بل في غياب التوجيه، وترك الطفل وحده يواجه عالمًا قاسيًا بلغة الكبار، دون أن يُمنح حق الطمأنينة بلغة الأطفال.
في علم النفس، يُطلق على هذه الحالة اسم «الصدمة الرقمية»، وهي صدمة لا تنشأ من التجربة المباشرة، بل من التعرّض المتكرر والعشوائي للمشاهد الصادمة عبر الوسائط الرقمية. فيتماهى الطفل مع الضحية، ويشعر بالعجز والخوف كما لو كان هو التالي. إن لم يجد من يُفسّر له ما يرى، تحوّلت شاشته إلى مصدر دائم للتهديد العاطفي.
وهنا لا يكون الحل في المنع أو الإنكار، بل في الاحتضان والتوجيه، فالأطفال لا يحتاجون إلى تكميم معرفي، بل إلى حوارات آمنة، تفسّر لهم ما يرونه دون تهويل، وتعيد إليهم ثقتهم في أن هناك من يحميهم. أن هناك دولة، وعائلة، ومدرسة، تتفهم قلقهم وتمنحهم المعنى لا الفزع.
ومن هذا المنطلق، تبرز أهمية الخطاب الرسمي الذي تبنته القيادة البحرينية خلال الأزمات الإقليمية الأخيرة، والذي لم يقتصر على الجوانب العسكرية والسياسية، بل قدّم رسائل طمأنة وطنية واضحة. تصريحات حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المعظم، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، حملت بين سطورها ما هو أبعد من البيانات الرسمية: حملت رسائل ثقة، ووضوح، وطمأنينة حقيقية لكل بيت.
وفي هذا السياق، لابد من الإشادة بتصريحات معالي الفريق أول الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة، وزير الداخلية، التي اتسمت بالوضوح والمسؤولية، وأكدت أن الأمن ليس حالة طارئة بل ممارسة يومية تُدار بعين يقظة وعقل حكيم. هذا النوع من الخطاب، حين يُقدَّم بإدراك لمشاعر الناس، لا يُطمئن الكبار فقط، بل يرسم للأطفال صورة عن وطن لا يتركهم وحدهم أمام الخوف.
فالطفل حين يسمع من والده: «قادتنا يتابعون ويحمون ويطمئنون»، يشعر أن الوطن ليس مجرد خريطة، بل حضن واسع، وأنه ليس وحده أمام العاصفة، بل في كنف دولة تحمي قلبه قبل حدوده.
وبصراحة، جيل اليوم لا يمكن عزله عن العالم، لكن يمكن احتواؤه بالحب والفهم والوعي. هو جيل يرى كل شيء، فلنحرص على ألا يرى كل شيء وحده.