بـ«الثقة».. لا بـ«الخوف»! | صحيفة الوطن
[
]
في بيئات العمل الصحية، يُفترض أن يشعر الموظف بالأمان الكافي ليعبّر عن رأيه، يشارك أفكاره، ويخوض تجاربه المهنية دون أن يُثقل كاهله الخوف من العقاب أو التهميش. إلا أن الواقع يقول شيئاً آخر!
كثير من المؤسسات لاتزال تُدار بثقافة يغلب عليها التخويف، حيث يصبح المدير بدلاً من أن يكون مصدراً للتحفيز والإلهام، يصبح مصدراً للقلق والضغط، ما ينعكس سلباً على بيئة العمل برمتها.
الخوف في مكان العمل لا يقتصر على كونه شعوراً داخلياً مزعجاً، بل يتحول مع الوقت إلى عائق مؤسسي حقيقي. الموظف الذي يخشى إبداء رأيه أو الإشارة إلى خلل ما، سرعان ما يتحول إلى شخص صامت، سلبي، وربما فاقد للحماس. ومع تكرار هذه الحالات وتراكمها، تتكون بيئة تفتقر إلى الشفافية وتغيب عنها المساءلة، وتترسّخ ثقافة الصمت والتواطؤ غير المعلن، حيث تسود الأخطاء، وتغيب الدقة، وتضعف روح الفريق.
مثل هذه البيئات تطرد الكفاءات الحقيقية. الموظفون المبدعون والموهوبون لا يمكثون طويلاً في مكان لا يشعرون فيه بالتقدير أو الأمان، بل يسرعون إلى البحث عن مؤسسات تمنحهم مساحة للتعبير، وفرصة للنمو. وهكذا، تجد المؤسسة نفسها وقد أصبحت مأوى للمجاملين أو أولئك الذين يُفضّلون الصمت على المخاطرة، مما يقلل من فرص التطور والابتكار.
كيف يتعامل الموظف مع واقع كهذا؟! هنا ليس من السهل مواجهة ثقافة خوف مترسخة، غير أن التغاضي عنها أو التعايش معها قد يكون أكثر ضرراً. أول ما يحتاجه الموظف في هذه الحالة هو الوعي الكامل بحقوقه وواجباته، والمعرفة بأنظمة المؤسسة وطرق التظلم الرسمية، وكيفية حماية نفسه قانونياً وإدارياً.
من المهم أيضاً توثيق الأعمال والمهام والمراسلات، كنوع من الحماية في حال وقوع خلاف أو محاولة تحميل المسؤولية ظلماً. ولا يقل أهمية عن ذلك بناء علاقات مهنية متوازنة مع الزملاء الذين يشاركون نفس القيم، لتشكيل شبكة دعم تعزز الشعور بالانتماء وتخفف من وطأة الضغوط. وعندما تتفاقم الأمور إلى حدٍّ لا يُطاق، يبقى اللجوء إلى الجهات المختصة داخل المؤسسة، أو حتى خارجها، خياراً مشروعاً.
بطبيعة الحال، لا يمكن تحميل الموظف وحده مسؤولية التصدي لثقافة الخوف. فالمسؤول أو القائد هو الطرف الأهم في المعادلة، وهو من يتحمّل نصيب الأسد من المسؤولية في تشكيل بيئة العمل. القائد الحقيقي لا يُدير المهام فقط، بل يصنع المناخ الذي تعمل فيه فرقته. وإذا ما ساد الخوف، فإن أول ما يجب مراجعته هو أسلوب القيادة المتّبع، ومدى امتلاك القائد للمهارات اللازمة لبناء الثقة، وفتح قنوات التواصل، وتحويل الأخطاء إلى فرص للتعلم لا إلى مبررات للعقاب.
القيادة بالتخويف قد تحقق نتائج مؤقتة، لكنها على المدى الطويل مدمّرة لأي منظمة تسعى للاستمرار. الموظف الذي يعمل في بيئة تقوم على الاحترام والثقة، يمنح أفضل ما لديه دون تردد. أما الذي يعمل تحت التهديد، فحتى إن أطاع، فإن عطاءه سيكون باهتاً، خالياً من الشغف.
لا يمكن أن تُبنى المؤسسات الناجحة على الخوف. بل تُبنى على الثقة، وعلى قيادات تؤمن بالناس قبل الأنظمة. الموظف ليس آلة تُنتج، بل إنسان يحتاج إلى مناخ إنساني ليُبدع. والثقة، كما تُقال، تلهم، بينما الخوف لا يفعل سوى أن يُسكت. وبين قائد يُلهم، وآخر يُرهب، يكمن الفرق بين بيئة تنمو، وأخرى تذبل في صمت.